من اللافت للنظر في نقاش فتوى اللجنة الدائمة للإفتاء بتحريم عمل المرأة "محاسبة" في الأسواق التجارية ـ التي انشغل بها المجتمع السعودي في الأسبوعين الماضيين ـ أن يقول المدافعون المتحمسون عن تلك الفتوى إنها ليست "مُلزمة"؛ مما يعنى أن التقيد بها متروك لأفراد المسلمين؛ فيمكن لمن يقتنع بها القبولُ بها، مثلما يمكن لغير المقتنع أن يتجاهلها. ويترتب على هذا المنحى من الدفاع أن تقلَّ درجةُ "الحَرَج" الديني جرَّاء مخالفتها عن درجة الحرج الذي يشعر به المسلم حين يخالف بعض الفتاوى الأخرى التي يرى هؤلاء المدافعون عن هذه الفتوى أنها "ملزِمة".

ويكفي هذا المنحى من الدفاع للدلالة على أن القائلين به ليسوا مطمئنين إلى أن الأدلة على مضمون الفتوى ـ التي لم تورد اللجنة في فتواها شيئا منها ـ ليست قوية، لا من حيث الثبوت ولا من حيث الدلالة. ويترتب على هذا أن يكون التشنيع على الذين ناقشوا الفتوى ورأوا عدم ملاءمتها للواقع تشنيعا متجنيا وليس في محله. ذلك أن موضوع الفتوى، بحسب القول بأنها ليست ملزمة، من الأمور التي يسع المواطنين السعوديين المسلمين الخلاف في الرأي مع الهيئة الموقرة بشأنها. ومن هنا لا يمكن أن يعد نقاش الكتّاب السعوديين للفتوى تطاولا على مقام الهيئة الموقرة، فهو نقاش لأمر عام يهم كثيرا من المواطنين والمواطنات يتطلب أن يكون القرار فيه مبنيا على أسس واضحة.

ومما يدل على عدم وجاهة التشنيع على مناقشة الكتّاب لهذه الفتوى ووصفها بأنها تعد على مقام مؤسسة الإفتاء التي أوكل إليها خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ الإفتاءَ، في توجيهه الكريم ذي الرقم 13876/ب، بتاريخ 2 / 9 / 1431 هـ، أن التوجيه الكريم نفسه حذَّر الذين يفتون في قضايا تخص الشأن العام ويخالفون "ما تم حسمه بآلته الشرعية التي تستند على أقوال أهل العلم بالدليل والتعليل".

ومن المؤكد أن هذا التحذير موجه لبعض المفتين الذين يصدرون فتاوى تتعلق بالشأن العام وتخالف ما تصدره مؤسسة الإفتاء الرسمية بشأنه معلَّلا ومدلَّلا عليه بأدلته الشرعية. وهذا لا ينطبق على ما كتبه الكتاب السعوديون عن هذه الفتوى. فهؤلاء ليسوا مفتين، بل مواطنون يسهمون بآرائهم في مناقشة أمر يهم الجميع، وفتوى لا حرج في مخالفتها ـ استنادا إلى القول بأنها ليست ملزمة. إضافة إلى ذلك ـ وهو أهم ـ أن هذه الفتوى لم تتضمن دليلا واحدا من الكتاب والسنة، بل اعتمدت اعتمادا كليا على "سد الذرائع" المعهود.

ومن البين أن اعتماد هذه الفتوى على "سد الذرائع" تصرف لا يخرج عن المعهود في كثير من الفتاوى التي يصدرها بعض علمائنا الأجلاء، ومؤسساتنا الدينية المكلفة بالإفتاء. إذ ينحو أولئك الفضلاء، وتنحو تلك المؤسسات، دائما إلى التحوط، حتى في وجود أدلة واضحة يمكن أن تؤدي إلى التيسير.

ومن جهة أخرى فهيئة كبار العلماء واللجان التابعة لها لا تختلف في شيء عن المؤسسات الاستشارية الأخرى في الدولة؛ ويعني هذا أن عملها يقتصر على تقديم المشورة في الأمور العامة إلى ولي الأمر ليتخذ القرارات الملائمة بشأنها. ومن المعلوم أن مجلس الوزراء في المملكة هو الجهة المنوط بها تشريع الأنظمة وسن القوانين في الدولة. ومن الواضح أن قضايا الشأن العام "الدينية" تدخل ضمن القضايا التي تحتاج إلى أن تصاغ على شكل أنظمة تشريعية حتى تأخذ قوة القانون الملزم للمواطنين جميعا.

لهذا لا يمكن للهيئة الموقرة أن تبادر بإصدار بعض الفتاوى الخاصة بالشأن العام التي يمكن أن تثير البلبلة والأخذ والرد في المجتمع. إذ يتطلب الأمر أن تعمل هذه المؤسسة الموقرة بالطرق النظامية التي تعمل بها المؤسسات الاستشارية الأخرى في الدولة لكي تأخذ فتاواها الخاصة بالشأن العام قوة الأنظمة والقوانين الملزمة التي يجب أن يتقيد بها الجميع.

وقد بيَّن الشيخ عبدالله بن منيع، عضو هيئة كبار العلماء، الطبيعةَ الاستشارية لهذه المؤسسة منذ تأسيسها. فقد صرح (برنامج "إضاءات"، الذي يقدمه الزميل الأستاذ تركي الدخيل، في قناة العربية بتاريخ 10 / 2 / 1429 هـ) بأنه "يجب أن نعرف بأن هيئة كبار العلماء هي في الواقع مجلس استشاري أعلى لولي الأمر, وبناء على هذا ما يُعد من برنامج النظر في أي جلسة من جلسات هيئة كبار العلماء لا بد أن يُعرض على ولي الأمر للنظر فيه, وللنظر كذلك فيما يتعلق بالحاجة إليه, الغرض من تأسيس الهيئة هو أن تكون جهة شرعية علمية يرجع إليها ولي الأمر ويستشيرها" (نقل بتصرف عن حديث شفهي لفضيلة الشيخ).

كما صرح الشيخ المنيع في البرنامج نفسه بأن بعض أعضاء الهيئة "يكون عندهم المزيد من الحيطة, والمزيد من الاحتجاج بضرورة استبراء الذمة والاحتياط وعدم فتح الأبواب وضرورة العناية بسد الذرائع ونحو ذلك".

وصرح كذلك بأن سبب هذا الميل إلى سد الذرائع هو أن بعض هؤلاء الفضلاء "ليس لديهم اتصالات بشرائح المجتمع, وإدراك ما المجتمع فيه من حاجة ومن ضرورة دراسة أحواله ومشكلاته وما يتعلق بهذا, فلا شك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره, إذ طالما أن تصوري لأي موضوع تصور قاصر فلا شك أن يعني الأخذ بالسلبية (تجاهه)".

وكان يمكن للجنة الدائمة للإفتاء الموقرة أن تعامل الاستفتاء الذي وردها عن عمل النساء "محاسبات" على أنه أمر خاص يتعلق بالمستفتي وحده، فتفتيه بما تراه بصورة خاصة. ذلك أن هذا المستفتي ربما كان يريد توظيف "محاسبات" في متجر يملكه، أو كان يريد أن تتوظف إحدى قريباته "محاسبة" في بعض المتاجر التي تسمح بتوظيف النساء في هذا العمل. ويمكن أن توصي اللجنة هذا المستفتي بتحري استبراء ذمته ومحاولة تلمس البدائل الأخرى التي ربما تبعده عن التعرض لما يتخوف منه في استفتائه من محاذير في هذا العمل.

لكن اللجنة الموقرة اختارت أن تحوِّل هذا الأمر الخاص إلى شأن عام لتتجاوز الفتوى فيه معالجة قضية خاصة بالمستفتي إلى أن تكون حكما عاما بحرمة هذا العمل على النساء السعوديات جميعا. ويمكن أن يعد هذا التصرف من اللجنة تجاوزا لصلاحياتها بوصفها مؤسسة استشارية مسؤولة أمام ولي الأمر بالإفتاء في ما يستشيرها فيه فقط. ومن المؤكد أنه كان يمكن لها أن تقدم رأيها إلى ولي الأمر بخصوص هذه القضية ابتداء لينظر فيه ويتخذ، من ثم، ما يراه ملائما للمصلحة العامة ومتوافقا مع الرأي الشرعي.

إن القضاء على اضطراب الفتوى يتطلب أن تعمل هيئة كبار العلماء، واللجنة الدائمة للإفتاء الموقرة المتفرعة عنها، بصورة نظامية واضحة حتى تخرج فتاواها أقرب ما تكون إلى معالجة مشكلات الواقع المعاش، وحتى لا تكون المؤسسة بأكملها عرضة لانتهازية بعض المحتسبين المتحمسين الذين ربما يهدفون إلى توريطها في بعض المشكلات التي هي في غنى عنها.