حين تفوح رائحة القهوة أيام العيد، وتضج بها كل فضاءات المدن يكون أغلب المحتفلين بالعيد غير مكترثين بتاريخ هذه القهوة، منصرفين تماما عن التفكير فيها كثقافة للعيد، وملمحا معبرا عن تقاليد الأعياد لدى المسلمين، ومدى تحولاتها، أو ارتهانها لما هو ثقافي أبعد مما هو تعبدي، ديني.
مسائل سسيوثقافية
لكن متى حضرت القهوة جزءا من ثقافة العيد لدى السعوديين؟
الكاتب الروائي عبدالله التعزي يلتقط السؤال، مشددا على أنه ككاتب ليس معنيا بمتى حضرت القهوة، المهم أن تكون حاضرة. ويضيف التعزي: هو سؤال مهم، لكن المعني به هو الباحث الدارس في مسائل سسيوثقافية، ودراسات إنثروبولوجية، لكن المفارقة المحزنة هنا أن جامعاتنا ومراكزنا البحثية تفتقر لهذا الجانب من الدراسات، حسب علمي، أعرف كتبا ومؤلفات تناولت القهوة، ولكن تناولها ليس دراسات معرفية حفرية، قدر ما هي رصد تاريخي سريع، أو تداعيات، وسرد إنشائيات، لا يمكن عدها مسحا إنثروبولجيا يمكن الاستناد إليه. المهم الآن أن تكون القهوة حاضرة، لنتأكد أن العيد استقر هنا/ بيننا، وتنتشر في أرجاء مدينتي بحب هائل مفردة "جبا ياهو".
من أين جاءت "جبا"
"جبا" مفردة ترحيب تراثية، تنتشر في مدن الحجاز، ويروي عبدالغني بن إسماعيل النابلسي في كتابه "الحقيقية والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز" أن "من عادة أهل مكة والمدينة وما والاهما أنهم إذا جاؤوا بالقهوة لا بد أن يقولوا "جبا" بفتح الجيم وفتح الباء الموحدة بعدها ألف، وهذه اللفظة مشهورة بينهم، وقد تكلمنا معهم في معناها، ورأيت يخط بعض الأفاضل الشاميين ما صورته قيل إن الذي أنشأ القهوة وأظهرها أعطي له "بلد جبا" وقال له المعطي خذ "جبا" واشتهرت بعد ذلك. وأنا كنت أقول مشاكلة لأقوالهم إن معنى قولهم "جبا" في حال إعطاء القهوة من قوله تعالى "أو لم نمكن لهم حرما آمنا، يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا، ولكن أكثرهم لا يعلمون"، وأخبرني بعض أهل المدينة بمعنى آخر وهو أن "جبا" بالقصر جارية كانت للشيخ أبي المواهب الشاذلي، الذي هو أول من اخترع عمل القهوة، وكان ينادي عند طلب القهوة منها "جبا"، أي يا جبا هاتي القهوة، ثم شاع ذلك بعده فيقول الساقي جبا، أي هذه قهوة "جبا" تبركا بما كان من شيخ القهوة. والمشهور في الشام إذا جاء ساقي القهوة وقال "جبا" فمراده أنها بغير ثمن يعني أن بايعها جبأ ثمنها من فلان، وهي هبة لك، ومنه اشتقاق الجابي في الأوقاف، هو الذي يجبي أي يجمع أموال الوقف".
أسئلة حيوية
وبينما لا يتذكر الدكتور عبدالله مناع "76 عاما" أي حضور للقهوة في أعياد طفولته بمدينته جدة، يتذكر جيدا أن "قهوة القشر الحلوة" هي التي كانت سائدة قبل 70 عاما. وفي حين يصف المناع سؤال القهوة في العيد بالمهم جدا يثير أسئلة أخرى حيوية جدا، منها لماذا تأخر حضور القهوة كثقافة في مجتمع كمدينة جدة، تربطه صلات تاريخية عميقة بحكم الجوار البحري مع واحدة من أهم مناطق العالم في إنتاج القهوة، وهي القرن الإفريقي، وتحديدا بلاد الحبشة "إثيوبيا/ إريتريا". المناع، أشار إلى أن طرح مثل هذا الأسئلة يحفزنا لمساءلة الباحثين في مثل هذا النوع من الدراسات الثقافية التي من المؤكد أننا نفتقدها.
تحريم القهوة
الناقد والباحث حسين بافقيه كان قد أثار حوارا حافلا بمقدمات ثرية عبر موقع تويتر، عن شيء متعلق بتاريخ القهوة، لافتا إلى ما أورده أحمد السباعي في كتابه الشهير "تاريخ مكة" ذكر أنه لما ظهرت قهوة البن في مكة حاربها علماؤها حربا شديدة، وأفتى بعضهم بتحريمها، وقيل إنها خمرة، فصدر الأمر بجلد بائعها وشاربها وطابخها وشاريها، فكان الناس يتعاطونها في أقبية بعض البيوت فإذا هاجمهم المكلفون سحبوهم بالعنف إلى ساحة عامة وضربوا رؤوسهم بأوانيهم، وكانت من الفخار حتى تدميهم، ثم ما لبثوا أن تهادنوا في شأنها فكثر شيوعها وزاد انتشارها وطغى صوت العامة على المتعسفين"، كما لفت بافقيه إلى أن عبدالقدوس الأنصاري كان يسأل الأفندي محمد حسين نصيف عن ذكرياته، ومنها ما يعرفه عن الشاهي، وينشرها في (المنهل)، حيث قال نصيف: "قبل عام 1260 لم يكن الشاي معروفا في الحجاز، وكان الناس في هذه البلاد يشربون القهوة وقشر البن المحلى بالسكر".