التواصل البشري يمكن فهمه على مستويين: مستوى أخلاقي ومستوى معرفي. المستوى الأخلاقي يعبر عن حقيقة اللقاء بين البشر وما يعنيه من اهتمام ومسؤوليات بين الذات والآخر والمستوى المعرفي يعبر عن مضمون التواصل من معلومات وأفكار يتم التعبير عنها وفق حدود اللغة ومعايير الفهم. ما لاحظته في كثير من التواصل مع السعوديين في أميركا هو أهمية المستوى الأول مقارنة بالثاني. بمعنى أن الناس تعطي قيمة أكبر لمعاني الاحترام والتقدير في التواصل مقارنة بمضمون الأفكار والاختلافات التي قد تحدث وكأن القاعدة كالتالي: تواصلي معك سيستمر متى ما تحققت الشروط الأخلاقية بغض النظر عن اختلافاتنا الفكرية. السؤال هنا وهو ما أثير في نقاشي لهذه الفكرة في تويتر أن سياقات كثيرة تثبت العكس. التواصل مع السعوديين في أميركا حالة خاصة، باعتبار أنه يجمع أناسا جمعتهم الظروف بدون معرفة مسبقة في فضاء اجتماعي مفتوح ومتأسس على التنوع والاختلاف.

في المقابل في التواصل بين أطراف التيارات الأيديولوجية المحلية في وسائل التواصل الاجتماعية نجد أن الخلاف الفكري يبدو العامل الأكثر أهمية وفاعلية بين أطراف التواصل. أعتقد أن الملاحظة فعلا دقيقة وتحتاج إلى تحليل لطبيعة التواصل الذي تصنعه أجواء الصراعات الأيديولوجية. برأيي أن الصراع الأيديولوجي يعمل بشكل أساسي على إعاقة اللقاء المباشر بين الناس ولذا فهو يخلق حالة من الحجاب المانع للتواصل. من أهم آليات هذا الحجب خفض اهتمام الفرد بالآخرين كما هم ورفع اهتمامه بهم كممثلين لأيديولوجيات أخرى أو كموضوعات محتملة للتجنيد الأيديولوجي. عادة ما تحوّل الأيديولوجيا أفرادها لدعاة. هذه المهمة تغيّر طبيعة تواصل الإنسان مع الآخرين. مع تبني دور الداعية يصبح الآخر هدفا محددا والعلاقة معه محكومة بهذا الهدف. الداعية الأيديولوجي يجد صعوبة في الاهتمام بالآخرين خارج ساحته الصراعية. قيمة الآخرين تتحقق عنده بقدر ما يعبرون أو يمثلون هذا الصراع. أذكر هنا صديقا عزيزا كان يحب أن يتحاور مع المدارس الفلسفية من خلالي. بمعنى أن حواري معه يتحول في كثير من الأحيان إلى حوار بينه وبين مدارس فلسفية أخرى. في هذا الحوار أنا لم أعد سوى معبر عن هذه المدارس، وفي حال خرجت عن هذا التعبير تلاشى اهتمام صاحبي للحوار معي. ما يقوله صاحبي هنا إن حضوري في الحوار له قيمة، بشرط أن يكون استمرارا لحوارات وخلافات قديمة في السياق الفلسفي. خارج هذه المهمة لا أهمية لحضوري. هذا حجاب سميك بين الذات والآخر نلاحظ فيه طغيانا هائلا للجانب المعرفي على الجانب الأخلاقي. طغيان الجانب المعرفي هنا يحجب الآخر لأنه بطبيعته يحصره في سياقات مسبقة محددة سلفا. العلاقة في هذا الأفق علاقة استعمالية لا تختلف في مضمونها عن العلاقة بين البائع والمشتري. الداعية الأيديولوجي يقوم بعملية تسويق وترويج لأفكاره وعلاقته مع الآخرين محصورة في هذا الهدف. هذا الأمر لا يختلف كثيرا مع الباحث المتعمق في أبحاثه لدرجة أنه لا يعرف تواصلا مع الآخر خارج هذه الاهتمام. العلاقة هنا لا تزال علاقة انشغال بالذات واهتماماتها ورغباتها وحضور الآخر لا معنى له إلا إذا توافق مع هذه الاهتمامات والرغبات. المنغلق على ذاته محاط بحجاب ضد الآخر. حضور الآخر بالمعنى الأخلاقي مرتبط باتساع اهتمام الذات لما هو خارجها. أي خارج حساباتها الخاصة في حالة انفتاح وتسليم للسلطة والتحكم.

الصراعات الأيديولوجية تعمل بأشكال مختلفة للحد من اللقاءات المباشرة بين الناس ومن قدرة الإنسان على الاستماع (الاستماع هنا هو حالة من الانفتاح على الآخر والتخلي عن سلطة فلترة حضوره). أحد هذه الأشكال هو تصنيف الأشخاص بدلا من تصنيف الأفكار. الفرق هنا مهم. تصنيف الأفكار عمل علمي طبيعي يساعد على التفكير والتحليل والنقد. تصنيف الأشخاص في المقابل يضعهم في قوالب تحجبهم. تصنيف الأشخاص ينطوي علي عملية اختزال للإنسان. هذا الاختزال يعني رد الإنسان بكل تنوعاته واختلافاته وانفتاحه على التغيير والجديد إلى مجموعة محددة من الأفكار. هذي هي الخطوة الأولى، أما الخطوة الثانية فهي حصار تلك التصنيفات بأحكام أخلاقية سلبية. الهدف هنا هو نقل الشخص من كونه مختلفا إلى كونه سيئا ولاحقا عدوا. هذه الأحكام الأخلاقية السلبية على الآخر تهدف إلى حجب التواصل معه، باعتبار أن التواصل قائم على الانفتاح. الصراع الأيديولوجي يقاوم الانفتاح بهذه العملية المزدوجة: قولبة الآخر وتجريم هذا القالب. في المقابل نجد أن التواصل المباشر يقوم بعملية عكسية. التواصل المباشر ليس مشغولا بالحكم على الآخر، بقدر ما هو مشغول بالآخر ذاته. الحكم على الآخر له مستويان أيضا: معرفي وأخلاقي. الحكم المعرفي انشغال بتقييم تفكير الآخر بدلا من الانفتاح على تفكيره. الحكم الأخلاقي على الآخر يعني تصنيف الآخر بدلا من الاهتمام به وتحمل مسؤوليته. الاستماع في أفق الحكم هو مجرد مرافعة في محكمة. المستمع المشغول بالحكم لا يحضر الآخر أمامه إلا في إطار المتهم أو البريء. خارج هذه السياقات الآخر لا يعنيه ولا يهمه.

كانت هذه محاولة لفهم أسباب إعاقة التواصل داخل صراعات التيارات. هذه الصراعات تدفع باتجاه إعلاء قيمة محتوى التواصل فوق قيمة المعنى الأخلاقي للتواصل كارتباط واهتمام بالآخر وتحمل لمسؤوليته. هذا يمكن أن يفسر كيف تحد الصراعات الأيديولوجية من التواصل بين الناس ومن فرص عيشهم المشترك.