ليست المرة الأولى التي يتهم فيها أحد رجال الأعمال الشباب السعوديين بـ"الدلع"، تلك التي كانت قبل أيام وأثارت أوساط الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي. ولا يعنيني صاحب التصريح في هذا المقام، فليست هذه المرة الأولى، ولا أظنها ستكون الأخيرة، بقدر ما أسعى لرصد ظاهرة، وأرجو أن أكون موفقاً في تعبير "ظاهرة" هذا، لكن بالفعل يلمس المرء ما يشبه الحملة الممنهجة لإحباط الشبان السعوديين والسعي إلى تنميط صورة شائهة عنهم ووصمهم بالكسل وعدم الجدية و"الدلع"، من قبل عدد من رجال الأعمال؛ لتبرير استبعادهم للشبان السعوديين من شركاتهم التي يدخرون حصة الأسد من وظائفها للأجانب، تاركين البطالة لأبناء الوطن وبناته، وليتهم اكتفوا بذلك، بل يصفونهم بقائمة طويلة من الصفات المحبطة، في تجاهل تام لواقع الشبان السعوديين الجديد، الواقع الذي يشهد طفرة عمل والتزاما واجتهادا ومنافسة حقيقية، وليس أدل على ذلك تلك القطاعات التي أصبحت تدار بالكامل بأيدٍ سعودية، ولله الحمد أثبتوا كفاءة ونهضوا بهذه القطاعات، وأبدوا همة وعزماً وشعوراً بالمسؤولية من دون أي "دلع".
وإنني أرى أن مشكلتنا الحقيقية هي "دلع" بعض رجال الأعمال، وليس "دلع" أبنائنا الشباب، إذ يبدو لي أن كثيراً من رجال الأعمال في بلادنا ليس لديهم الاستعداد لتقديم شيء لهذا الوطن، أو التنازل عن ريال من المليارات التي حصدوها من خيرات هذه البلاد التي لم تطالبهم يوماً بضريبة، بل ذللت لهم سبل الاستثمار وأغدقت عليهم التسهيلات حتى شبعوا ونسوا أن لهذه البلاد حقاً عليهم، وأن هذا الحق واجب وليس منحة، فإن لم يعطوه طواعية وجب أخذه منهم بقوة القانون، وفاءً لحق هذا الوطن، ويقيني أن دولتنا ستتبنى هذا النهج، ولديها عزم كبير على المحاسبة والانتصاف لأبناء الوطن من كل من تنكر لهم بل ووصمهم بصفات لا تليق بشباب أصبحوا مفخرة لبلادهم، فلا يوجد ميدان علم أو عمل إلا وأثبتوا تفوقهم فيه وجدارتهم به.
ولعلك أخي القارئ الكريم تلاحظ معي أن جميع من يتحدثون عن تراخي الشبان السعوديين وعدم تأهيلهم أو "دلعهم" حسب آخر ما وصفوا به، هم رجال أعمال تغص شركاتهم بالعمالة الأجنبية، في وقت نجد فيه بعض رجال الأعمال الذين لبوا نداء الوطن وحققوا نسبة توطين عالية لوظائف شركاتهم أو على الأقل وطنوا الحد القانوني منها، لا يشتكون أبداً ولا يتهمون شباننا بمثل هذه الاتهامات ولا يصمونهم بهذه الصفات التي لا تليق بهم، مع أنه من المفترض أنهم أكثر المتضررين من جراء امتلاء شركاتهم بشبان سعوديين، وفق الصورة النمطية التي يسعى آخرون لترسيخها في الأذهان عن هؤلاء الشبان، لكن العكس تماماً هو ما يحدث، فأكثر من مرة أقرأ تصريحات لبعضهم في الصحف تنطوي على كثير من الاعتزاز بهؤلاء الشبان والإشادة بهم، وتأكيد جدارتهم وما أبدوه من تأهيل رفيع وشعور بالمسؤولية والعمل تحت الضغط. وأتصور أن الفارق الوحيد بين هؤلاء وأولئك هو الانتماء إلى هذا الوطن، حب هذا الوطن، الرغبة في تقديم شيء حقيقي لهذا الوطن وليس مجرد تصريحات وأوصاف يطلقونها في وقت تترع فيه حساباتهم البنكية بمليارات الريالات التي يسعون لمضاعفتها على حساب أزمة شباننا الباحثين عن العمل والمستقبل في كل سبيل، ثم في الأخير يشتكون "دلع" أبنائنا.. فمن يشتكي من بالله عليكم؟
إنني أدعو إلى محاسبة كل رجل أعمال يصرح بهذا النوع من التصريحات المحبطة المستفزة لأبنائنا، لا أنادي بتكميم أفواه الناس بالطبع، فمن حق كل منا أن يعبر عن رأيه في ظل أجواء الشفافية وحرية التعبير التي نعيشها، لكن في المقابل ينبغي أن يكون لدى رجل الأعمال الذي يصرح بهذا النوع من التصريحات معاناة حقيقية، أو شيء من الواقع يستند إليه، وهذا يكون دور الجهات الرقابية، أما أن تعمم مثل هذه الأوصاف على شباننا بهتاناً وافتراءً من دون بينة، فهذا ما نرفضه جملة وتفصلاً، فأنا شخصياً على مدار عقود من العمل في قطاع بالغ المشقة مثل قطاع الصحة، لم أجد من أبناء هذا الوطن إلا كل إخلاص واجتهاد ودأب والتزام وتعاون وانتماء، والأخيرة هذه من أهم الصفات التي تضمن لنا ارتقاء حقيقياً وتنمية مستدامة بأقصى سرعة ممكنة، وهذه لن تقدمها لنا إلا الخبرات الوطنية التي تعرف أنها في الأخير تبني بلادها، وهذه مما ينطبق عليها قول الشاعر الراحل أمل دنقل: "هي أشياء لا تُشْتَرَى". لكن يبدو أن مسألة بناء الوطن وتنمية قدرات أبنائه هذه ليست داخلة في حسابات فئة من رجال أعمالنا المعنيين في المقام الأول ببناء صروحهم الاستثمارية الخاصة وتنمية أرصدتهم المصرفية، وربما ابتلاع شوارع الدولة لتوسيع حدائق قصورهم.. إنه "دلع" بعض رجال الأعمال، فماذا عنه؟.