أزمات العراق المتلاحقة تكشف عن واقعٍ ينوء بتاريخه الحديث وصلاتٍ بالغة التأثير بدول الجوار، ومساحات خصبة للعنف لا ينفك السؤال عن مآلاتها، يتجدد كلما شب حريق التصريحات قبل اشتعال نيران المعارك على الأرض.

فمنذ الاحتلال الأميركي لبغداد 2003، والصورة لا تصل التفاؤل بأي نسب، إذ بدا سقوط النظام بداية فعلية للمؤقت من مباهجِ الحاكمين الجدد وإنذارا شديد اللهجة لمكونات اجتماعية قيل في نقدها، على لسان المحتفين بقرار الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، إنها احتكرت السلطة وكانت سببا في إرهاق البلاد بحربين وحصار "دولي" استمر ما يقرب من العقدين. وما عناه نقد كهذا لم يكن بعيدا عن نشوة النصر، والرغبة الجامحة في "شيطنة" شركاء حقيقين في الوطن، تمهيدا لممارسات إقصائية ارتدت لبوس الضحية المتمسك بصرخة في كل الأزمنة، حتى وهو يمسك بمفاتيح السلطة الجديدة.

صحيحٌ أن التاريخ يفعل فعله في أي حاضر بشري، لكن الأزمة هنا أخذت الرواية المظلومة إلى منعطفات خطيرة، لم تترك لأحد حق الشكوى من مرارات الواقع المستجد.

خوف الأمس أنجب جلادا يكرر ما اعتاد على مؤاخذة نظام صدام عليه. يؤكد بعده الانشقاقي كلما لاح نجم في الشرق، على نحوٍ يدفع المستقبل إلى مراجعة حصته من الأمل، خاصة أن التناول السياسي، دعك من العسكري وجنايته المستهدفة مدنيين أبرياء، يُظهر نزعة استئثارية هي إلى إدامة العنف أقرب من أي معنى للبناء والمصالحة الوطنية، حتى ليخال المرء هذه النزعة هي المشروع الناجز الذي لا أولوية لسواه، ولا مناقب تُصب إلا في كأسِ التضامن معه.

وهنا، يأتي دور الجوار المُعين على تحقيق "الأهداف" التي يبدو أن حبر أوراقها لن يجف قريبا؛ فكان أنْ لعبت إيران دورها في تذكيةِ الحس الأكثريّ لدى حكام بغداد الجدد، لعل في ذلك فتحا لمبادئ الثورة المطاحة بالشاه سنة 1979، ومصداقا لصوت "المستضعفين"، الذي صدح آنذاك، وأقيمت له الاحتفالات على مسارح أعدها "الشيطان الأكبر". إضافة إلى أن النقمة الموروثة على "فكرة الدولة" وجدت متنفسها أخيرا، وآن لها أن تقرأ التاريخ تحت وطأة ذرائع مختلفة هذه المرة، كأن يُعطى "الآخرون" مساحة كافية لخلق أحزانهم، وبذر قصصهم في ذاكرة المنافي، وليكون المنفى هو أوصال دولة لم تستطع الإدارة الأميركية إبعاد شبح الفوضى عنها، هي التي أبلغت الطرف الرئيس في "محور الشر" مسبقا بخطة الغزو، باعتراف سفيرها لدى بغداد آنذاك زلماي خليل زاده، ونسقت معه قبل الأحداث، وبعد أن ألقى الرئيس الأميركي خطابه الشهير عن "إنجاز المهمة" في الأول من مايو 2003، والذي أعلن انتهاء العمليات العسكرية الرئيسة.

في ظل كلام كثير عن نوع الإنجاز وطبيعة المهمة، سلّمت واشنطن البلاد إلى طبقة سياسية يُفضي التأمل في ممارسات كثير من أهلها إلى أن "الفئوية" حاكمة، وأن البلاد، بفعل ارتهانها إلى خطاب طائفي تغذيه الجارة الداعمة، دخلت وتدخل مع أحداث الفلوجة الأخيرة نفق أزمة ثقة حادة، هناك من يرى أنها التجلي الأوضح لـ"حرب أهلية غير مُعلنة" تأخذ البريء ورموزه بجريرة حاملي السلاح والرامين إلى سيادة الخراب؛ فلا حدود فاصلة، والوصف ينطبق على الجميع.

إنها حرب أبعد من تنظيم بعينه، بها تتحول المآذن إلى بؤر مستهدفة، والاسم المُذكِر بـ"غيريّة" مغضوبٍ عليها إلى دريئةٍ تتقصدها السهام، والجغرافيا التي ارتبطت بمقاومة الاحتلال، إلى أنَفَةٍ من الأفضل إزهاقها، وليكن ذلك عبر التقاط صور شخصية بجانب بيوت مسوّاة بالأرض، لا بأس أن ترفرف على ما تبقى من أسوارها أعلام بكل الألوان. إذ اللحظة المنتظرة حانت، ولا بد من توثيقها لأغراضٍ شتى، من بينها.. الإدانة.