أيهما يفسر فكرة "الخليفة" الذي سيكون مسيطرا على الطبيعة ويسخر مقدراتها لخدمة الإنسانية؟ هل هم أولئك الذين ينقادون كالبهائم لتعاليم تقتل دور العقل في التفكير الحر والإبداع؟ العقل الذي توقف لديهم في مرحلة معينة من التاريخ الغابر ولا يستطيع الفكاك منها، ويقف عاجزا أمام أزماته المتفاقمة، وعاجزا عن إنتاج القوانين والتشريعات التي تنظم حياته المتغيرة؟ أم أن الإنسان "الخليفة" أولئك الذين استطاعوا أن يوظفوا قدرات العقل الخارقة في حل مشكلات الطبيعة والإنسان، بحيث إنهم لم يعودوا بحاجة إلى مصادر أخرى غير عقولهم تعينهم على فهم ما يريدون الوصول إليه.

هؤلاء هم من لخصوا مبادئ حركة التنوير في العصر الحديث حين وصل العقل إلى غزارة في الإنتاج العلمي، عندما حرر العقل أسره من الخرافة والمعتقدات البائدة، فوصل إلى كشف أسرار الطبيعة.

هنا يتضح معنى كلمة الخليفة الإنساني، الذي استطاع أن يحقق ذاتيته واستقلاله من استعباد طويل، وليس هو ذلك الخليفة الذي ما فتئ رجال الدين يحشدون باسمه قلوب العامة ويوهمونهم أنه ذلك الذي يسمع ويطيع. ليتحول إلى آلة أو كتلة لا تفقه شيئا، بل تعيق تقدم البشرية وتعرقل مسارها الطبيعي.

إن استغنى الإنسان بعقله عن كل معونة تأتيه مما وراء الطبيعة، وهو الوهم والخرافة، يتحول اهتمامه كله من السماء إلى الأرض حيث يعيش الإنسان، فسعادته هي الهدف الذي يجدر به أن يستهدفه، ونعيم الآخرة هو النعيم الذي يهيئ أسبابه للأجيال القادمة، والنجاة المنشودة ليست هي النجاة بالإنسان من خطيئة آدم، بل هي النجاة مما هو فيه من جهل واستعباد.

هذا ما يفسر ما وصلت إليه البشرية من تقدم علمي وخبرة واسعة في مجال وضع القوانين ووضع الحلول لأزمات ومشاكل ترافق التطور والتقدم. فهل نستطيع الآن أن نعتق عقولنا من خطيئة آدم التي تظل تطاردنا منذ الأزل، ونسمح لعقولنا بأن تفك أسر الخرافة والغيبيات. فالمعجزة الحقيقية التي يجب أن نُصدقها ونؤمن بها هي العقل البشري. وليست تلك التي تناقلتها الغيبيات ولم يرها أحد منا. يقول "توماس جيفرسون" الذي تقدم لرئاسة أميركا وقدم وثيقة إعلان الاستقلال. والذي أصبح حاكم ولاية "فرجيينيا" والذي أعلن في بداية الوثيقة "لما كنت على يقين أن الله خلق عقل الإنسان حرا..." يقول: "لا يجب على الأجيال القادمة أن ترتبط بفعل الأجيال السابقة، فلكل جيل الحق في تغيير ما قررته الأجيال السابقة، بأفعالها وأقوالها، لأنه لو أخذنا بمبدأ اشتراك الأجيال السابقة في تقرير حقوق الجيل القائم ترتب على ذلك أن تكون الأرض ملكا للأموات، لا ملكا للأحياء، الذين يفلحونها ويعيشون عليها".

فالعقل إذا ليس خطيئة آدم حين بدأ يفكر، بل هو طريق حريته، وإرادته في حياة سعيدة على هذه الأرض.