تواجه معظم دول العالم اليوم تحديات في توفير احتياجات مواطنيها من المياه، فمع ارتفاع أعداد السكان وزيادة الطلب على الماء، ونتيجة للتحولات الاجتماعية والاقتصادية، وفي ظل الظروف المناخية الحالية، والمحتملة مستقبليا، وبسبب الأزمات الاقتصادية التي تمر بها معظم دول العالم، سيزداد الأمر صعوبة وتعقيدا. وقد تنبأ كثيرون بأن حروب هذا القرن ستكون على المياه، وحول مصادرها، وعلى تحصيص مواردها.
ويقدر العلماء أنه بحلول عام 2030 سيعاني قرابة 4 مليارات إنسان في العالم من شح المياه، وسنكون نحن هنا على رأس القائمة، ما لم نجد مصادر مياه جديدة، ونطور من كفاءة إدارة ما نمتلكه راهنا، وأهم من كل ذلك دعوة المواطن ودفعه إلى المشاركة في حملة مدروسة، وبرامج معدة بعناية تدفعه وتحثه على ترشيد استهلاك المياه.
وقد ناقش أزمة المياه مؤتمر الطاقة والمياه الذي انعقد بمدينة جدة قبل أشهر. تناول فيه المؤتمرون جوانب الأزمة وأسبابها، والحلول المقترحة لتجاوزها. من يرى أن زيادة الإنتاج وحدها لا تكفي لتجاوز الأزمة، ولا يمكن اعتبارها حلا نهائيا لشح المياه، يرى أنه لابد من تكامل الجوانب الإدارية مع الحلول الفنية في التصدي للظاهرة، ويقترح أن تلعب اقتصادات عمليات الإنتاج دورا في تنظيم آلية العرض والطلب.
وتعرض البعض في المؤتمر للإجابة على السؤال المهم الذي يطرح نفسه في أزمة المياه، فهل الماء حق من حقوق الإنسان يلزمه، للحفاظ على حياته وصحته وعلى صحة المجتمع في مجمله؟ أم إنه سلعة كغيره، يجوز تداولها والاتجار بها في أسواق البورصة؟
فريقان، أحدهما يؤمن بأن الماء حق من حقوق الإنسان، ويرى أن من واجبات الدولة تأمين الحد الأدنى منه، وبالقدر الذي يكفل استمرار الحياة والحفاظ على الصحة، ويرى فيه موضوعا، بدرجة كبيرة من الأهمية، لا يمكن في ظلها تركه لأيدي المؤسسات التجارية. وتدور حلول من يرى هذا الرأي حول إصلاح وتطوير نظم إدارة المياه، ويدعو، إلى وضع قرارات تسعير الماء وإدارته في أيدي المؤسسات العامة، وإبعاد آلية السوق عنها.
والآخر يرى في تسليعه وطرحه للاتجار حلا مثاليا للتغلب على الندرة، وتنظيم مناخ العرض والطلب، وبذلك تسري عليه القوانين الاقتصادية تماما كما تسري على باقي السلع التجارية، فلا يجده إلا من له القدرة على دفع قيمته، وهذا تماما ما يراه الحقوقيون تعديا على حقوق الإنسان، وامتهانا لحياته وكرامته.
ومن الزاوية الأخرى يرى أنصار السوق توفير الطلب على الماء مجانا، أو بأسعار رمزية يحث على الإسراف في استهلاكه، و يقود في نفس الوقت إلى الحد من إنتاجه، بناء على النظريات الاقتصادية. وكما تقود الأسعار المتدنية إلى الإسراف فإن المغالاة في رفع الأسعار تقود إلى التضييق على الناس، بل وتؤدي، إلى حرمان المعدم والفقير من حصته كإنسان ومن حقوقه في الحد الأدنى من الماء، وهذا ما يخشاه الفريق الأول، رغم قناعته كفاءة وزيادة الإنتاج والمساهمة في حل أزمة الندرة تأتي نتيجة للأسعار المرتفعة.
يرى الاقتصاديون أن آلية السوق وقانون العرض والطلب هي أنجع السبل في تنظيم وإدارة الماء كسلعة يدفع لها المحتاج إليها، ويتعامل معها كذلك. يتم إنتاجه بناء على حجم الطلب، وتسعر قيمته على أساس الندرة أو الوفرة، ولا اعتبار لمن لا يملك.
إن تطرف الجانبين مرفوض، فكما أنه لا يمكن ترك الفقير والمعدم يموت عطشا أو يحيا مريضا، فإنه من غير المنطق أن يتحمل المجتمع أو الدولة تبعات مظاهر الترف التي تنعم بها قلة من المواطنين، أو أن يقبل بمواقف اللامبالاة التي ينتهجها البعض في التعامل مع الماء.
والحل الوسط هو الأخذ من الطرفين بما يكفل للفقير وصول كفايته بتكلفة رمزية أو دون مقابل، بل وكحافز، يمكن تعويضه ماديا عن التوفير فيما دون الحد الأدنى المقرر، ونقل قيمة ذلك إلى فاتورة الكهرباء كرصيد مثلا. وبعد ذلك، يشارك في تحمل الأعباء المادية، من زاد معدل استهلاكه عن الكمية المقننة، إذ يمكن اعتبار ذلك رفاهية عليه تسديد قيمتها.
هذا حل ليس بسهولة فهمه، ففي تطبيقاته تعقيدات صعبة، لكنها ليست مستحيلة، ومن الممكن التغلب عليها وفك رموزها. فمعنى الحد الأدنى من الماء للأسرة يصعب تعريفه، كما أن تقدير الأسعار بصورة عادلة لا يمكن تحقيقه، وكيف يدفع من يسكن في مدينة الرياض التي تبعد مئات الأميال عن محطات التحلية في الشرقية مقارنة بآخر في مدينة جدة، قريبا من نقطة الإنتاج؟ ثم لابد أن نعي أن معالجة الأزمة تحتاج إلى أكثر من الإجابة على هذه التساؤلات.
فنحن بحاجة إلى برامج توعوية طويلة الأمد لتعريف المواطن بأزمة المياه ودوره في تجاوزها. وبحاجة إلى قوانين تمنع دخول الأجهزة والأدوات الصحية التي تسرف في استهلاك المياه. وقبل كل شيء بحاجة إلى إصلاح شبكة نقل المياه التي يتسرب منها إلى 40% من الإنتاج، وبحاجة إلى التخلص من نظام الخزانات الأرضية والسطحية التي لا نعرف نسبة ما تفقده أثناء التخزين، وبحاجة إلى التخلص من نظام الشاحنات في نقل الماء وتعريض الماء لشتى أنواع التلوث.
وعلى الشركة الوطنية للمياه واجب السعي في تحقيق الترشيد ببرامج معدة على أسس علمية وعملية، والتخلي عن السياسات والبرامج التي لم تؤتِ ثمرا.