تنتظر مدينة الرقة بدء عملية تحريرها على يد القوات الجوية الأميركية، وقوات سورية الديمقراطية، وهذا أول تحرير لمدينة الرقة منذ حوالي عامين، وكانت مدينة الرقة قد شهدت "تحريرات متتابعة" قامت بها قوات كثيرة، كان آخرها تنظيم الدولة الإسلامية، والذي حررها من قوات القاعدة "الكافرة"، والتي كانت بدورها قد حررتها من قوات الثورة "الكفرية" المسماة الجيش الحر، والذي كان قد حررها من قبضة نظام بشار الأسد، الذي كان يشعر بأنها أكثر مدنه أمانا بعد أن حررها من بضعة مارقين حاولوا تنظيم مظاهرات فيها عام 2011 للمطالبة بالحرية والديمقراطية، ولمن نسي ففي أول عيد أضحى بعد قيام الثورة السورية 2011، صلى بشار الأسد شخصيا صلاة العيد في الرقة، وتحديدا في جامع النور في الدرعية، في دلالة على عمق طمأنينته اتجاه الرقة آنذاك.

بعد ذلك، مر على الرقة كل ما يمكن أن يخطر في البال من قوات، وكانت أول مدينة تخرج تماما عن سيطرة النظام، وهي المحافظة الوحيدة التي اعتقل محافظها وأمين فرع حزب البعث فيها، ولم يُعرف عنهما شيء حتى الآن، وقد فقد النظام السيطرة عليها خلال بضعة ساعات، ودون مقاومة تذكر، وفي أراضيها سقطت الفرقة العسكرية الوحيدة من جيش النظام وهي الفرقة 17 التي حوصرت أشهرا طويلة قبل أن تصبح الفرقة الوحيدة التي خسرت قطاعها منذ بداية الأحداث في سورية، وفيها اختفى الأب باولو وآلاف الناشطين والثوار الذين كانوا مناضلين مؤمنين بسورية الحرة، قتلتهم قوى الظلام المتعاقبة على هذه المدينة الصغيرة، والتي بقي فيها حوالي سبعمئة ألف مواطن رغم كل ما جرى عليها، فقد عانوا نقص الغذاء والدواء، وانعدام سبل العيش، والتضييق عليهم وعلى حياتهم بأشكال مختلفة ومن جهات مختلفة، خصوصا بعد أن اختارها تنظيم داعش مركزا رئيسيا لخلافته، وأحكم قبضته عليها، وجعل منها نقطة انطلاق لعملياته المختلفة في سورية والعراق.

واليوم، يبدو أن الأميركان قد عقدوا العزم على إنجاز تحرير جديد للمدينة، وأعدوا لذلك تحالفا "صوريا" قوامه الأساسي قوات سورية الديمقراطية التي تتشكل من قوات كردية مطعمة "صوريا" ببعض القوى العربية من منطقة الجزيرة، ولتفادي الحساسية المحتملة بين العرب والكرد، والتي يمكن أن تنشأ إذا ما سيطرت قوات كردية على مدينة الرقة ذات الطبيعة العشائرية، فقد تم الإعلان أن القوات البرية التي ستدخل المدينة بعد إنجاز القصف الجوي المركّز فيها، ستكون عبارة عن تحالف يضم قوات سورية الديموقراطية بالإضافة إلى ثلاثين فصيلا عربيا يحملون مسميات جديدة مثل قوات الصناديد وتيار الغد وقوات السوتورو.

والأخبار القادمة الآن من الرقة تقول إن المعارك تدور على مشارف عين عيسى، وهي منطقة تبعد عن الرقة المدينة حوالي خمسين كيلومترا لكن لها أهمية كبيرة لتنظيم داعش، لأنها تشكل مركز ثقل له، ومركز وجود للقوات والإمدادات، والسيطرة عليها ستعني إضعاف التنظيم في عموم محافظة الرقة، وتمهد الطريق إلى طرد التنظيم من عاصمته المفترضة.

بالطبع، الأهالي أو من تبقى منهم بدؤوا في النزوح، ترقبا لاشتداد المعارك الجوية والبرية، والتي سيكونون ضحاياها على الأرجح، فعناصر التنظيم ستفر من المدينة عند أول شعور بجدية العملية العسكرية، وسيتوجهون إلى مناطق أخرى في سورية أو العراق، وسيتركون أهالي الرقة لمواجهة آثار الضربات الجوية والقصف المدفعي، وستشهد المدينة كما في كل مرة موجة من الانتقامات وعمليات القتل والإعدام لأسباب مختلفة، فحين خرجت قوات النظام منها، كان بعض أهالي الرقة متعاونين مع النظام وأجهزته الأمنية، فتعرضوا لمحاكمات مرتجلة، وتم تنفيذ أحكام إعدام بهم، ثم حين أصبحت المدينة في يد تنظيم داعش تعرض كثير من أبناء الرقة لمحاكمات وإعدامات، لأنهم أنصار الثورة الكافرة التي تنادي بالحرية والديمقراطية، وكثيرا ما وصلتنا أخبار عن إعدام لناشط إعلامي أو ناشط في مجال الإغاثة أو العمل المدني لأن "داعش" يعتبرهم كفرة، وخلال وجود "داعش" في المدينة وسيطرتها عليها، ربما اضطر بعض أبناء الرقة إلى مسايرة التنظيم والتعاون معه بدرجات مختلفة، وهؤلاء أيضا سيكونون عرضة لعمليات انتقامية، وربما يتعرضون للقتل.

وبين تحرير وتحرير، تزداد الرقة بؤسا، وأبناؤها موتا، وريثما تنتهي عمليات التحرير المقدرة للرقة، فلن يكون أحد من أبنائها على قيد الحياة ليروي لنا وللأجيال ما عانوه من أهوال.