كانت مسؤوليات الثقافة فيما مضى موزعة بين بعض الوزارات والمصالح الحكومية الأخرى، وكانت الثقافة في تلك الجهات بمثابة دكاكين صغيرة - إن جاز التعبير- ضمن دكاكين أكبر تدار وفق لوائح وأنظمة، وأحياناً اجتهادات فردية بحسب الجهات التي كانت تستظل بمظلتها، وتلتحف بعباءتها، وحتى لا نهضم حقوق من قاموا عليها، أو نبخسهم جهودهم في التأسيس، وفي كثير من المناشط التي اضطلعوا بها، في زمانها، إلا أن الطموحات كانت أكبر والتطلعات أوسع مما كان يبذل من جهود.
وفي عام 1424 أنيطت جميع مسؤوليات الثقافة بوزارة الإعلام تحت اسم وزارة الثقافة والإعلام، وأسندت مهام تلك الثقافة إلى وكيل مرتبط ارتباطاً مباشراً بوزارة الإعلام، وهللنا جميعاً بأن وزارة جديدة للثقافة قد أطلَّت علينا، خصوصاً وأن الثقافة قُدِّمت في اسم الوزارة الجديدة على الإعلام. وعلى الرغم من كفاءة الرجال الذين أنيطت بهم مسؤولية وكالة الثقافة إلا أنها لم تتقدم كثيراً عن ذي قبل، وظلت تعمل وفق الأطر التي كانت تعمل بها حينما كانت موزعة بين الرئاسة العامة لرعاية الشباب، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الإعلام. ويبدو أن وكالة الثقافة كانت الجانب الأضعف في وسط بيروقراطية وزارة الإعلام، ظهر ذلك جلياً، ولأكثر من مرة، في المقابلات التي أجرتها اللجنة المختصة في مجلس الشورى مع مسؤولي الوزارة، وما كان يظهر من شكوى مرة على لسان المسؤول المباشر عن الشؤون الثقافية، خصوصاً فيما يتعلق بقلّة الاعتمادات المالية، وتدنِّي قدرات القوى البشرية، وعدم تمكينه من استقطاب كفاءات متخصصة تنهض بالجانب الثقافي على النحو الذي يحقق طموحات أولئك المسؤولين، ويستجيب مع حاجة البلاد إلى مرفق ثقافي فاعل يرتقى بالثقافة، وينهض بها على النحو الذي يحقق أهدافها، ويمكنّها من القيام برسالتها على الوجه المطلوب.
ولكن الذي حدث أن شطر الثقافة في وزارة الإعلام لم يخرج كثيراً عن أطر العمل التي كانت متبعة قبل تأسيسها، وخصوصاً تلك التي كانت مطبّقة في الرئاسة العامة لرعاية الشباب من الإشراف على الأندية الأدبية، وتنظيم الأيام السعودية في الخارج، وإصدار سلسلة هذه بلادنا ونحو ذلك، وإن كان يحسب لوكالة الثقافة بالوزارة أنها نفضت الغبار عن المكتبات العامة التي كانت تتبع لوزارة التربية والتعليم حينذاك، وعملت على تنظيم المعرض السنوي للكتاب والفعاليات الثقافية المصاحبة له بما فيها جائزة الكتاب، وأيضاً تحديث لائحة الأندية الأدبية التي لم تود إلا إلى تضييق نطاق الثقافة في الأندية الأدبية، وحصرها في تخصص محدد، وفئة معينة، وأيضاً إلى كثرة الاحتجاجات والشكاوى من عدم نزاهة الانتخابات الرامية إلى تشكيل مجالس الإدارات في بعض النوادي الأدبية وليس كلها.
وحينما خرجت من عباءة الوزارة كل من هيئة الإعلام المرئي والمسموع، وهيئة الإذاعة والتلفزيون، ووكالة الأنباء السعودية، وأصبح لكل منها شخصيتها المستقلة، واعتماداتها المالية التي لا يشاركها فيها أحد، ظننا أن الثقافة وحدها هي التي ستصبح محور اهتمام الوزارة، وأنها ستكون بمثابة ابنتها المدللة، وستفوز بالنصيب الأوفى من الدعم المادي والمعنوي، إلا أن الشكوى من عجز الموازنة؛ وتدنِّي الكفاءات البشرية، وعدم القدرة على استقطاب كفاءات جديدة ظلت قائمة إلى أن تصدّى رجل الثقافة الأول خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز (حفظه الله) لمستقبل الثقافة في المملكة بإصدار أمره الكريم بتأسيس هيئة عامة للثقافة تدار من قبل مجلس إدارة يرأسه معالي وزير الإعلام. وتلك لفتة كريمة من لدن الملك سلمان (حفظه الله)، أعادت الأمل إلى كل من له عناية بالثقافة، وبأهميتها المجتمعية، ودورها في خدمة مختلف المناشط الثقافية والموروث الحضاري لإنسان هذه البلاد في ماضيه وحاضره ومستقبله.
فالثقافة ليست شعراً ونثراً وقصة ورواية وحسب، وإنما هي اسم جامع يشمل إلى جانب ما ذكر كل منشط فكري وأدبي يغذِّي المعرفة الإنسانية، ويرتقي بها، ويضيف إليها جديداً سواء من موروثه الحضاري، أو من ممارسات مجتمعاته التقليدية، وتستهدف كل فئات المجتمع وشرائحه من مختلف الأعمار دون استقصاء، أو تمترس خلف تخصصات بعينها، وحصر مفهوم الثقافة فيها دون غيرها تحت ذريعة الأدب ورجاله. فكم من أصحاب التخصصات العلمية والعلوم الإنسانية والاجتماعية من يملك حاسة أدبية وإبداعية أكثر مما يمتلكها المختص في الأدب واللغة.
كما أن الثقافة لا ينبغي لها أن تكون ثقافة الخاصة، وأن تنعزل عن الثقافة الشعبية والإنثروبولوجيا الثقافية التي هي علم يدرس في مختلف جامعاتنا، وأن تقبل بجميع الموارد التي ترفد الثقافة المجتمعية أياً كان مصدرها ما دامت منشطاً إنسانياً مباحاً، وأن تستفيد من قدرات المناطق وموروثها المحلي، فبعض مناطق المملكة قطعت شوطاً في العناية بالتنمية الثقافية، ومنها إمارة منطقة مكة المكرمة التي أحدثت وكالة للتنمية الثقافية مرتبطة مباشرة بأمير المنطقة، ونظمّت قبل عدة أشهر ورشة عمل خُصِّصت لخدمة التنمية الثقافية والاجتماعية للمنطقة، وحبذا تعميم تجربة إمارة منطقة مكة المكرمة على جميع مناطق المملكة.
فالهيئة العامة للثقافة إذا أرادت نجاحاً في رسالتها ومهامها وتحقيق أهدافها عليها ألا تنطوي على نفسها، وألا تسير في نفس المسارات التي كانت تسير عليها في الماضي، وإنما يتعين عليها أن تنفتح على سائر المكونات المجتمعية، وأن تنسق مع مختلف الجهات ذات العلاقة وتتكامل معها، وتستفيد من تجربتها، وتبرم معها اتفاقيات تعاون وشراكات كما تفعل الهيئة العامة للسياحة والآثار التي أبرمت حتى الآن أكثر من مائة عقد شراكة وتفاهم وتعاون مع جهات مختلفة من القطاعين العام والخاص، وعليها أن تطرق باب القطاع الخاص لا داعماً وراعياً وحسب، وإنما شريكاً ومستثمراً، فقطاع الثقافة قطاعٌ استثماري واعد إذا أحسن استثماره، والاستفادة من قدراته على الوجه المطلوب، وعليها أن تنسق وتتكامل مع جميع الصوالين الأدبية المنتشرة في المملكة وما أكثرها!!، وبعضها أنشط من بعض النوادي الأدبية.
وأخيراً لا ينبغي أن تعمل هيئة الثقافة بمعزل عن المرأة والشباب، وحتى في مجلس الإدارة يحسن أن يكون من بين أعضائه شباب ونساء مشهود لهن بالكفاءة والمقدرة وبعد النظر.