كتبت الأسبوع الماضي عن مؤسسة النقد في عهدها الجديد، وقد تولاها أحد رجالها الأكفاء، وعن الأمل في أن يقوم بإعادة تقييم أدوار المؤسسة المختلفة، لرفع أدائها إلى المستوى الذي يليق باقتصاد المملكة، أكبر اقتصاد عربي وخليجي وأحد أكبر 20 اقتصادا على المستوى الدولي. وتحدثتُ عن الحاجة إلى إعادة النظر في سياسات الاستثمار وإدارة الاحتياطيات التي تحتفظ فيها المؤسسة.
وأكتب اليوم عن دور آخر تقوم به المؤسسة، هو الإشراف على قطاع التأمين، الذي يشكو منه الجميع، خاصة في ضوء ارتفاع تكلفته أخيرا على نحو غير مفهوم بسبب عدم شفافية معظم شركات التأمين والشكوك التي تحوم حولها.
وحين تتعامل مع بعض شركات التأمين، تشعر بأنك تعمل في إطار غير قانوني، فما زالت تلك الشركات تعيش أجواء الحظر التي سبقت تقنين قطاع التأمين عام 2003: تعتمد على الاتفاقات الشفهية، وتُلزم العميل بالتوقيع على بياض، في حين لا تُوثّق التزاماتها هي. وبعد استلام رسوم التأمين، تقوم بإرسال شهادات التأمين المكتوبة، التي قد تغاير الاتفاقات الشفهية، وربما أرسلتها متأخرة أسابيع أو أشهرا، إلى ما بعد انتهاء الفترة التي يمكن خلالها إلغاء التأمين دون خسائر كبيرة.
قبل عام 1984 لم يكن التأمين مرخصا، وبين عامي 1984 و2003 كانت هناك شركة واحدة مرخصة (الشركة الوطنية للتأمين التعاوني "التعاونية"). وفيما عداها، كان النشاط التأميني محظورا. وعلى الرغم من الحظر، تواجدت خلال تلك السنوات شركات أجنبية كثيرة تعمل بصفة غير قانونية، من خلال وكلاء ووسطاء غير مرخصين في المملكة، وكثير من هذه الشركات ما زال يعمل بعد الترخيص لها.
وفي عام 2003 رُفع الحظر بصدور "نظام مراقبة شركات التأمين التعاوني"، ولائحته التنفيذية مطلع عام 2004. وتم الترخيص لعشرات شركات التأمين، فضلاً عن نحو 60 شركة "وساطة" تأمين، و70 شركة "وكالة" تأمين، وبصرف النظر عن التسميات القانونية، فإن كثيرا منها لا توفر التأمين أصالة، بل تبيع "إعادة التأمين"، حيث تقوم بالتأمين شركات أجنبية، ويقتصر دور الشركة المحلية على أخذ عمولة لبيعه، وليس لديها خبراء أو فنيون، بل تستخدم برامج جاهزة أعدتها شركة التأمين الأجنبية.
وعلى الرغم من مرور 12 سنة على الترخيص لشركات التأمين، لم ينجح منها سوى القليل. فمن نحو 40 شركة مدرجة في سوق الأسهم السعودية، فشل معظمها ماليا أو عانت صعوبات كبيرة. فحين تنظر إلى الشركات المدرجة في سوق الأسهم التي تعثرت وانخفضت قيمتها الدفترية بشكل ملحوظ عن سعر الاكتتاب الأصلي، ستجد ثلثاها من قطاع التأمين. وتصل درجات الانخفاض لبعض شركات التأمين إلى نحو ثلاثة ريالات، أو 33% من سعر الإصدار (10 ريالات)، وبعضها انخفضت إلى أقل من 50%من سعر الإصدار.
وربما كانت هذه الانخفاضات الحادة في القيمة الدفترية ناتجة عن المبالغة في تقييم الشركة لدى طرح أسهمها، ولكن على الأرجح أنه يعود لعدم تمكنها من الحصول على حصة كافية في السوق، وفشلها في تخفيض التكاليف، والتكيف مع المخاطر التأمينية. وأحد أسباب فشلها أن معظمها يفتقر إلى الخبراء والفنيين المدربين. وبدلاً من ذلك، تعتمد على موظفي مبيعات مخضرمين عاصروا فترة المنع (قبل عام 2003)، ولم يتمكنوا من التأقلم مع الجو الجديد، وكانت المهارات الأساسية لموظفي التأمين في تلك الفترة تتلخص في القدرة على البيع السريع وتجنب ملاحقة الرقيب له، أما المهارات الفنية فثانوية.
وبسبب عدم شفافية عمليات التأمين، وعدم دراية المستهلك بحقوقه، انفتح مجال واسع للفساد. فرسوم التأمين وشروطه قد ترتفعان وتنخفضان دون ضوابط، وكذلك بالنسبة لتسوية المطالبات أو رفضها. ومما يسهل الفساد أن العميل قد لا يُخطر بما يتم تسويته من مطالبات تتم باسمه، مما يتيح الفرصة لاستخدام هويته وبوليصته التأمينية بصفة غير مشروعة.
ومما أساء إلى شركات التأمين عدم ثقة العملاء، وبعض من ذلك غير مستحق، بل هو استمرار للنظرة السلبية لنشاط التأمين خلال فترة الحظر، حينما كانت هذه الشركات تعمل بصفة غير قانونية، فضلا عن استهجان البعض آنذاك لنشاطها، ولكن بعض سوء السمعة يعود إلى ممارساتها الفعلية.
وبسبب فشلها، تخلت بعض شركات التأمين عن مهامها الأصلية، وأصبحت بدلا من ذلك مَطيّة مفضلة للمضاربين في سوق الأسهم. فهي مغرية بسبب انخفاض رأسمالها وبالتالي انخفاض عدد الأسهم التي يمكن تداولها، فمن خلال عدد محدود من الصفقات، يستطيع المضاربون رفع الأسعار وخفضها كيفما شاؤوا، محققين بذلك مكاسب طائلة، ولكن لا يعود من هذه الأرباح شيء على الشركة. أما المؤسسون، الملزمون بالاحتفاظ بنسبة معينة من الأسهم، فإنهم يحققون كذلك أرباحا طائلة حينما يحين الوقت لبيع أسهمهم بعد تضخم أسعارها من خلال المضاربات. وأصبح من غير المستغرب أن ترى شركة تأمين وقد انخفضت القيمة الدفترية لسهمها إلى ثلاثة ريالات في حين بلغت قيمته السوقية نحو مئة ريال!
ولذلك، وبعد مرور 12 عاما من فتح نشاط التأمين، وفي ضوء فشل معظم شركاته، والشكوى من ممارساتها، فإن من الملائم أن تقوم مؤسسة النقد بقيادة محافظها الجديد، بإجراء تقييم مستقل يتم من خلاله التمييز بين الشركات الناجحة التي تستحق البقاء والتشجيع، والفاشلة التي يجب كشف حقيقتها للمستهلك والمستثمر.