أعشق كل ذرة من تراب هذا الوطن الغالي الذي أسعدني الحظ باكتشاف فتنة كثير من مناطقه إبان وجودي على رأس العمل في وزارة الصحة، ولكم تساءلت على مدار أعوام أمضيتها متنقلاً بين ربوع الوطن عن كثير من الإمكانات غير المستثمرة وغير الملتفت إليها والتي يمتلكها كثير من مناطق المملكة، ومنها منطقة جازان الواعدة، الكنز الاقتصادي الكبير الذي ينتظر من يكتشفه، ويتيح ثرواته لأبنائه وأبناء الوطن.
وإن كنت أعني في حديثي اليوم أيقونة واحدة من أيقونات منطقة جازان الفريدة، جزيرة فرسان التي أعلم أنني لست أول الداعين إلى تحويلها إلى منطقة حرة، وأيضاً لا أملك من التفاصيل الفنية بهذا الشأن إلا القليل في مقابل الكثير الذي لا يتسع المقام لرصده إلا أن الكثير من المختصين تحدثوا عن الإمكانات الواعدة لهذا المشروع الوطني الكبير، وأيضاً إمكانية إقامته ولا سيما أنه سيدر على الدولة مليارات الريالات حين يصبح حقيقة قائمة على الأرض وأحد روافد الاقتصاد الوطني.
إن ما أريد التطرق إليه هنا بعض الإضاءات التي أرى أن التذكير بها أصبح واجباً بعدما أعلنت الحكومة عن توجهها إلى تنويع مصادر الدخل، وعزمها فك ارتباط اقتصاد بلادنا بالنفط، وبالتالي التخلص من تهديدات السوق، فضلاً عن كون النفط ثروة قابلة للنضوب، وهي خطوة ليست بالهينة لبلد عاش عقوداً معتمداً اعتماداً شبه كلي على عوائد هذه السلعة الثمينة، لذا ينبغي أن يكون البديل ثميناً أيضاً حتى يستطيع أن يكون بديلاً حقيقياً، وحتى تنجح مساعي بلادنا في الطريق التي اختارتها لمستقبلها ومستقبل أجيالها، الطريق التي تأخرنا كثيراً في ارتيادها، لكن أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي.
ولا يسعنا حين نتحدث عن "فرسان" أن نتجاوز حقيقة أنها جزء من منطقة جازان، المنطقة الغنية بإنسانها وطبيعتها، فسخاء أرض جازان يجعل منها سلة غذاء عملاقة بوسعها أن تمثل رديفاً غذائياً قوياً يسهم بحصة كبيرة في الناتج الزراعي للمملكة، أيضاً طبيعة جازان الساحرة تجعل منها قاعدة مثالية للاستثمار السياحي، فلا يساوني أدنى شك من واقع ما شاهدته في تلك المنطقة إبان زياراتي الميدانية لمتابعة مشروعات الوزارة، في أنها كنز سياحي يبحث عمن يفتح بواباته العملاقة، ويغترف من خيراته، بدعم البنية التحتية السياحية فيها، والكشف عن آفاق الاستثمار في تلك المنطقة التي لا تحتاج في تقديري لأكثر من التفاتة يسيرة لتصبح الوجهة السياحية الأولى في المملكة، ولعل ما يعزز من حظوظ جازان من السياحة، طبيعة أهل جازان التي لا أدعي أنني وحدي الذي خبرتها، فالمجتمع الجازاني مضياف وبشوش ومحب للآخر ومؤمن بالتعايش، وبسيط إلى حد يجعل تجربة الإقامة بين أهل جازان تجربة لا تنسى، فضلاً عما عرف به أهل هذه المنطقة الخصيبة من التزام وتفانٍ في العمل على نحو يكفل نجاح أي مشروع أو مبادرة يعول فيها صانع القرار عليهم، ولا سيما في ظل عشقهم لمنطقتهم، وتطلعهم إلى تطويرها واحتلالها المكانة التي تستحقها بالفعل بين وجهات الوطن السياحية.
ولن تحتاج فرسان، الجزيرة الساحرة -وهذا مقترحي بهذا الخصوص- لأكثر من جسر طوله نحو 40 كيلومتراً يمتد من جازان إلى هذه الجزر الاستثنائية المؤهلة بامتياز لتصبح منطقة حرة، ولا يخفى على المختصين ما يوفره هذا من جاذبية استثمارية تجعل من الجزر وجهة اقتصادية، وموطناً للاستثمارات العالمية، شأن كثير من المناطق الحرة التي تزخر بهجرات رؤوس الأموال إليها حول العالم بعدما أصبحت مراكز تجارية، وتأسيساً على رؤية المملكة 2030 الطموحة، فإن جزيرة فرسان تمتلك جميع المقومات لتصبح أحد الروافد الاقتصادية الاستراتيجية المهمة؛ لما تمتلكه من موقع مميز، وحدود واضحة تسهل عملية تحويلها إلى منطقة حرة، وبالتالي تسهم في تحقيق أهداف الرؤية الوطنية الواعدة.
لقد أصبحت المناطق الحرة إحدى أهم الركائز للاقتصادات حول العالم، لما تشهده من نشاط للتبادلات التجارية، وانتعاش فرص العمل التي ستتوافر آلاف منها لأبناء منطقة جازان، ما يثري المنطقة، وفي الوقت نفسه يخفف من الضغط على العاصمة بحثاً عن الوظائف، فضلاً عما توفره المناطق الحرة من استجابة للمتغيرات الإقليمية والعالمية التي من شأنها تعزيز قدرة بلادنا على المنافسة الاقتصادية.
ويتحدث المختصون عن مزايا عدة ترجح كفة فرسان لتكون منطقة حرة دون غيرها من المواقع، من بين هذه المزايا وقوعها مباشرة على الطريق التجاري الرئيسي حول العالم، من الشرق الأوسط إلى أوروبا، وأكثر ما يميز فرسان عن غيرها إمكانية توفير خدمات الترانزيت إلى شرق إفريقيا والبحر الأحمر وشبه القارة الهندية والخليج العربي، حيث تبلغ المسافة بين فرسان وسنغافورة 4640 ميلاً بحرياً (8 أيام)، وبين فرسان وشمال شرق أوروبا 5570 ميلاً بحرياً (10 أيام). وتمثل فرسان ميناءً طبيعياً نظراً إلى عمق المياه، كما تمتلك مساحات بحرية كبيرة قابلة للتوسع، على العكس من المناطق الحرة الأخرى، مثل دبي، التي تعاني ازدحامات خانقة في الفترة الأخيرة، ما يجعل فرسان أفقاً مستقبلياً مفتوحاً لتكون منطقة حرة مثالية، بل استثنائية.
يضاف إلى ما سبق من المزايا إمكانية تشييد مطار داخل الجزيرة، ما يتيح إمكانية نقل البضائع الجوية منها وإليها، كذلك طبيعة مناخها التي تجعل منها وجهة مناسبة للسياحة والعمل على مدار شهور العام، في وقت تتوقف فيه أغلب المناطق الحرة حول العالم في أوقات من العام إثر تعرضها لتقلبات جوية، وكوارث طبيعية كالعواصف والفيضانات، فإن فرسان تبقى وجهة مفضلة لاستقرار الأجواء ومن ثم العمل بها على مدار شهور العام، كما تعد جزيرة فرسان مكاناً بكراً في ظل اقتصار الكثافة السكانية فيها والتي تقتصر على نحو 26 ألف نسمة فقط، و90% من أراضيها أراضٍ بيضاء قابلة للتنمية، وهذه ميزة بالغة الأهمية، إذ تعد الأراضي واحدة من أبرز العقبات التي تواجه مشروعات التنمية العملاقة من هذا الطراز؛ نظراً لاستنزاف معظم ميزانية البنية التحتية في نزع الملكيات، لكن الواقع المختلف في فرسان تماماً.
وتمثل هذه المزايا فرصاً كبيرة تمتلكها جزيرة فرسان بهذا الموقع البحري المميز الذي من شأنه أن يجعل منها وجهة مثالية للسفن بوصفها محطة تموين وتوزيع، توفر مبالغ كبيرة سنوياً من خلال توفيرها للمصروفات اليومية للأيام الإضافية التي تحتاج السفن فيها للذهاب إلى الموانئ الأخرى في المنطقة، حيث يبلغ متوسط تكلفة التشغيل اليومية للسفن الكبيرة نحو 70 ألف دولار أميركي. كما تعد جزيرة فرسان الكبرى أكبر مجموعة جزر فرسان من حيث المساحة وكثافة السكان، إذ تبلغ مساحتها نحو 369 كيلومتراً، ويبلغ طول الجزيرة من طرفها في الجنوب الشرقي إلى طرفها في الشمال الغربي نحو 70 كيلومتراً، في حين يبلغ متوسط عرضها نحو 30 كيلومتراً.
ويبقى القول إن ما استعرضه آنفاً ليس حلماً خاصاً بي، بل حلم كثير من أبناء جازان الذين التقيتهم، وتجاذبنا أطراف الحديث طويلاً في هذا الشأن، وما أقترحه هنا هو ربط هذه الجزيرة بجسر يبدأ من شواطئ جازان، ولن يكون بالأمر العسير، فعلى حد علمي المسافة بين جازان وفرسان حوالي 40 كيلو متراً، وهي أيضاً تضيق في بعض مناطق الجزيرة فتصل إلى 20 كيلو متراً، وأتصور أن ربطها بجسر لم يعد بالأمر الصعب، وهو لن يكلف الدولة ريالا واحدا، ولا يحتاج منها إلا القرار.. قرار تحويل جزيرة فرسان إلى منطقة حرة.