غالبا ما تقوم علاقتنا مع ما حولنا على مقدار المنفعة التي نحصل عليها منهم، سواء كانت هذه المنفعة مادية أو معنوية. قد يكون الاعتراف أو النظر إلى العلاقات الاجتماعية المقربة بالذات من هذا المنظور غير مقبول ولا مستساغ لأول وهلة، ولكن لو تأملنا بتجردٍ آلية الأخذ والعطاء في العلاقات الثنائية بين الأفراد أو المجموعات، سنجد أن احتياجاتنا العاطفية والغريزية والاجتماعية من طرف إلى آخر تكون مشروطة بالتبادل مع أمر ما لدينا، ولو لم تكن هذه الاشتراطات معلنة وواضحة.
وجود منفعة متبادلة بين طرفين لا تعني أن استمرارية العلاقة بينهما ستنتهي بالضرورة بانتهاء تلك المنفعة، خاصة في العلاقات الاجتماعية، والعكس ربما صحيح في مجالات الحياة العملية الأخرى، وفي دوائر الحياة الأكبر من شؤون اقتصادية أو سياسية.
قريبا من هذا المعنى توجد نظرية "التبادل الاجتماعي" وهي إحدى النظريات السسيولوجية المعاصرة المعروفة للتبادل الاجتماعي وأنواعها المتعددة والمتنوعة. ونشط كثير من الفلاسفة والعلماء في شرح معانيها وتعداد صورها والمفاهيم التي تقوم عليها.
قد يتخذ التبادل الاجتماعي منحى سلبيا حينما لا يكون متوازنا بين الطرفين، فيصبح قمعيا يستغل احتياجات الآخرين، وتصبح ورقة ضغط يرضخ لها الآخر ويخضع للمطالب التي ربما تكون تعسفية وغير مشروعة، وبها نوع من الإجحاف وانتقاص الحقوق.
وبين نظرية التبادل الاجتماعي والبراغماتية الحديثة يكثر ضحايا السياسات والأيديولوجيات والاقتصاد، وتُستغل الاحتياجات لصالح طرف على حساب آخر، يُسلم مع الوقت على أن الأساس هو استلاب حقه وإيمانه بالقمع كأسلوب حياة.
وتتفاوت أشكال ذلك المستغل من منظمات حكومية كاملة إلى مؤسسات أو تنظيمات حركية أو مجرد أفراد، وفي الحياة حولنا تتعدد الأمثلة لهذه الصورة السلبية من النفعية.
مؤخرا ينتشر بكثرة، ويتم تداول إعلان تجاري موجه لشريحة محددة في المجتمع، هذا الإعلان التجاري يسوق لأحد التطبيقات الإلكترونية التي تقدم خدمة التنقل عبر سيارات خاصة بسائق خاص، وذلك خلال طلب العميل للسيارة من التطبيق الإلكتروني الخاص بالمنشأة التجارية.
وفي مجتمعنا، الشريحة الأكبر التي تحتاج سيارة بسائق لتنقلاتها هي النساء، وجدلية قيادة المرأة وأزمات السائقين ومشاكل المواصلات قائمة من الأزل بيننا ولم يحسم أمرها، لأن السيد "المجتمع" لم يتقبل الأمر بعد.
بعيدا عن الفائدة التي يقدمها مثل هذا التطبيق للسيدات في المدن التي يغطيها بخدمته، وعن اضطرار النساء للبحث عن وسائل المواصلات عبره أو خلال الوقوف في الشارع، فإن إعلانه الأخير جاء مستفزا ومهينا ومستغلا لحاجة النساء للتنقل دون الحاجة لوسيط من سائق خاص أو سائق تاكسي أو سائق تابع لإحدى الشركات.
يبدأ الإعلان بمحاكاة لأغنية شهيرة تركز كلماتها على معاناة النساء مع انشغال السائق أو عدم وجوده، وعن الساعات التي تضيع في انتظاره، أو الأيام التي تتعطل عن الذهاب فيها إلى عملها أو تصل متأخرة، مما يسبب لها خصومات في مرتبها، وتختم المقطع بأمنيتها التي توجهها لمثيلاتها من النساء عن وجود سائق جيد لشهر واحد على الأقل قبل أن ينتهي الصوت بعرض اسم الخدمة. يصاحب الصوت الذي يختصر مشكلة النساء مع السائق في البلد بمشاهد بصرية لفتاة حزينة أمام مرآتها تنتقل بعدها للشارع، حيث تقف تحت أشعة الشمس الحارقة، بينما تمر السيارات التي يستخدمها الرجال دون معاناة من أمامها وتصبح "كالشجرة" في انتظارها.
يعرض التسجيل أيضا "الخط الأحمر" الشهير لدى المعلمات في دفتر الحضور والانصراف الذي يغلق قبل وصولهن إلى العمل بسبب تأخر السائق عليهن، ويستمر بعرضه لتأملها بيأس صور وأسماء عدة سائقين في لوحة انتظارها، وتنتهي بالانتصار لمقدم الإعلان.
الفيديو يجسد باختصار المعاناة الحقيقية للنساء مع المواصلات والسائقين، وآلاف الموظفات لا بد أنهن مروا بمرارة الانتظار أو التأخير والابتزاز والاستغلال من السائقين، والرضوخ لأمزجتهم واشتراطاتهم، ولا تخلو قوائم هواتفهن من أسماء العشرات منهم، فضلا عن المبالغ التي تصرف على رواتب السائقين وسياراتهم، والخصومات التي تقتطع من دخلهن بسبب التأخر عن العمل.
الفيديو الدعائي هذا، وهو يلخص للحل الذي يتجسد في هذه الخدمة المحدودة، يقوم بتكريس الصورة النمطية لهذه المعاناة، وجعلها أمرا مسلما يجب على المرأة أن تتقبله وتبحث عن الحل له من خلاله وأمثاله.
كما أنه يعتمد على احتياجات النساء لهذه الضرورة في التسويق وزيادة المردود المادي، والحصول على الرضا الاجتماعي الذي يجد المبرر دائما ويزيد الفجوة في اتخاذ قرار عملي لحل هذه المشكلة.
هذا الاستغلال يعكس صورة مقيتة من النفعية الاجتماعية في صورها السلبية، هذه النفعية التي تسخر معاناة الآخرين لصالحها، وتساعد القمع الاجتماعي في فرد عضلاته أكثر، والاختباء خلف مبررات غير منطقية.
مع كل هذه المعاناة التي لا يخلو منها منزل من أجل التنقل والمواصلات، ومع إصرار "المجتمع" -إن كان فعلا يُصر- على منع المرأة من حقها في التنقل، فيجب على الأقل التوقف عن الإساءة إليها بمثل هذه الإعلانات التي تستغل احتياجاتها، وأن تطرح حلول عملية لتعويضها عن هذا الضرر النفسي والاجتماعي والمالي، كصرف بدل نقل مجزٍ لكل سيدة، وتوفير سائق وسيارة لها!