كيـف يمكن لدعوات "التنوير" المنطلقة من مجتمعات عربية إسلامية، أن تتجاهل الديني في هوية الأفراد والظروف التاريخية التي شكلت فضاءات اجتماعية لها ما يميزها؟
السؤال يبحث في واقعية الدعوات وقدرتها على إلباس الفكرة زي الممكن في بيئات تختلف عن الأصل المستلهم، لا ليقال بخصوصية لم تسلم من نزعة إقصائية بالغت في حدودها وإنشائياتها الفاصلة، بل ليرى "الطموح التنويري" من زاوية صلته بالمكان المتحدث عن نهضته وبالبشر الذين يريد "تنويرهم". وهذا، بطبيعة الحال، يفترض ظلامية واستعصاء على اللحاق بـ"الأمثلة العليا" هما الباعثان على خوض معركة يؤمل أن تؤتي أكلها.. ولو بعد حين!
يعود المصطلح إلى مهد أوروبي شهد في القرن الثامن عشر ثورة على طبقة رجال الدين المتحالفة مع السلطة السياسية، وجد فيه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط "تحريرا للإنسان من قلة نضجه" التي لا تتمظهر إلا في غياب جرأته على التفكير؛ كما سادت، آنذاك، المقولة المنسوبة إلى المسيح عليه السلام: "دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وهي ذات المقولة التي تمحور حولها كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق (1925)، الذي أراد حصر المرجعية الإسلامية في جانبها الروحي، وإغفال أي قدرة لها على تنظيم الأبعاد الدنيوية/الاجتماعية للإنسان؛ كأنما استنساخ تجربة ما سمي بعصر الأنوار، وإنزالها منزل المطلق المنظور إلى نجاحه بعين التسليم هو مما تحتاج إليه مجتمعات "متخلفة" منشأ ومآلا عن إسهامات رينيه ديكارت وفرانسيس بيكون!
وبالطبع، ليس في ذلك نفي لتراجع حضاري ولا إعلاء لما نحن عليه، لكنه يقرأ أجوبة التنويريين العرب التي لا ترى في البيئة العربية - الإسلامية ممكنات نهضة، انسجاما مع دعاوى المركزية الغربية المسكونة بلغة استعلائية اعتادت إملاء حلولها على "الآخرين" وإسباغ صفات خلاصية عليها؛ والحق أن هذا من الذنوب التي لا يتحمل مفكرو عصر الأنوار وزرها وحدهم. فالسعي لإشاعة النموذج الحضاري وحمل الناس على الإعجاب به ليس خطأ، بل إنه مما يعد من طبيعة الاتصال بين البشر؛ المأخذ يكمن في الاعتداد بهذه المركزية، والتقليل من شأن البذور الاستلابية فيها هو الذي قاد إلى انكسارات نفسية ما زالت مضاعفاتها تحيط بنا حتى اللحظة.
عادة ما يستدعى المثال في الأزمنة الانتقالية، حين يحط المشهد أوزار صدامه ويجيء وقت التفكر في المرحلة الجديدة. رحلت الحملة الفرنسية بقيادة نابليون عن مصر، فذهب الفرنسيون وراجت مبادئ ثورتهم التي اندلعت في 1789. تداعت السلطنة العثمانية في بداية العقد الثالث من القرن العشرين، فتبرأ الموقعون على "معاهدة لوزان" من الحرف العربي وأعلنوا ثورة ثقافية من بين أهدافها إغلاق المدارس الدينية ومنع ارتداء الحجاب واعتمار الطربوش، في مسعى جدي لفصم عرى تركيا عن محيطها الإسلامي، ولتتماهى صورة الدولة الحديثة مع اللحظة القومية في أوروبا التي تربى النازيون والفاشيون في كنفها.
وفي أيامنا هذه، والثورة السورية ترسم ملامح سورية ما بعد الأسد، هناك من يستعدي أي ملمح إسلامي في إدارة الاجتماع، ويذهب إلى شواهد جماعات "إسلامية" مضت في طريق التخويف من الدين ومقترحاته الناظمة إلى إقصاه، ورعت نفورا كان من ترجماته تصاعد الإسلاموفوبيا في كثير من أنحاء العالم، وإصرار بعض أقطاب الدعوة التنويرية على انعدام العافية في أي بناء جديد يستقي مشروعيته من بيئته الحاضنة، كأنما إحلال التنوير محل التجديد والنقد الذاتي في السياق الحضاري الإسلامي هو ما سيحل المشكلات التنموية ويرفع قدر الإنسان ويحصنه من عوامل إضعافه؛ بينما حضور الاستلاب هو المرجح، الذي يعني تمكنه اعترافا بالخواء وبداية لزمن التطبيع مع تفوق الذات المعترف بغلبتها وجدوى مخرجاتها، وضعفا في وعي الثقافة بإمكاناتها المتجاوزة.