في مذكرات العملاق الراحل، الأستاذ عبدالكريم الجهيمان، ترد القصة القصيرة التالية، وأنا أكتبها اليوم للدلالة على أن الزمن وصيرورة التاريخ دليلان كافيان وحدهما على حسم الأفكار والقضايا الاجتماعية الخلافية.

يقول الجهيمان فيما اختصرته من تلك الحكاية أنه عندما كان رئيساً لتحرير صحيفة "أخبار الظهران" نهاية خمسينيات القرن الماضي ورد إليه مقال قصير في صفحة واحدة يتحدث عن ضرورة "بدء التفكير" في تعليم الفتاة، وكان المقال مكتوباً بلغة عاقلة محتشمة لا تجرح الذائقة المجتمعية السائدة يومها ضد تعليم المرأة. تجرأ عبدالكريم الجهيمان ونشر المقال بالصحيفة، وبعدها توالت الأسئلة وكان أكثرها سخونة هي الرغبة في الحصول والوصول إلى الكاتب الذي كان مجهولاً لا يعرف منه الجهيمان سوى اسمه بذيل ورقة المقال "محمد عبدالله"، وحين لم تجد كل تلك الأسئلة نظيراتها من الأجوبة تم إيقاف الصحيفة، وللأبد، ولماذا؟ عقاباً على مقال اخترق كل "التابوه" الاجتماعي ليتحدث عن تعليم الفتاة.

هذه القصة وحدها تشرح لنا بوضوح أن قوة الدفع الفكرية كفيلة بإحالة العقول الحجرية إلى متحف التاريخ. وخذ من المفارقات اللافتة أن حفيدة واحد من أكبر معارضي تعليم الفتاة في ذلك الزمن، وقبل سبعة عقود، كانت من أوائل من حصلوا على شهادة الدكتوراه من جامعة أميركية مرموقة، وهي اليوم اسم وطني لامع في مجال الفكر والثقافة. خذ أيضاً أن حفيد من اعتبر الراديو والبرقية وصولاً إلى جهاز الهاتف التقليدي القديم شيئاً من "المس" وعمل الجن، هو من تبوأ بكل جدارة قيادة ثورة الاتصالات الحديثة في هذا الوطن، وكم ضحكنا سوياً قبل أعوام في بهو أحد فنادق الرياض وهو يحدثني عن ثورة الغضب لجده الراحل عندما سمع المذياع في الصحراء لأول مرة. اليوم تذهب ملايين الطالبات إلى طوابير المدارس كل صباح. نحمل في جيوبنا وفي غرف منازلنا أحدث أجهزة العالم من التقنية، ويبقى الشكر الجزيل لكل من غامر قبل عقود طويلة ليكتب مقالاً خجولاً عن ضرورة تعليم الفتاة أو الحاجة إلى استيراد "الراديو" وضرورة وجود البرقية. قصة صراع الأفكار هي ذاتها قصة حدود التماس ما بين المحيط الأطلسي السائل وبين المحيط القطبي المتجمد. تتغير المجتمعات تماماً مثل تغير المناخ، وقد لا نكون يومها أحياء كي نكتب شجاعة أول من كتب مقالاً عن قيادة المرأة للسيارة، أو من كتب أن دور السينما ضرورة كي يبقى أولادنا بين أعيننا في مكان عمومي بدلاً من دهاليز المقاهي والاستراحات والشقق المشبوهة.

الخلاصة: لا يمكن لنا أن ندفع كل هذه المليارات من أجل تعليم شعب ثم نتوقع منه أن يبقى أسيراً للجهل ووصاية العقل الحجري المتخشب.