الشيء الوحيد الذي يفعله بعض المتحدثين الرسميين للوزارات غير الأمنية هو تدوير تغريدات الوزراء، وتتبع أخبارهم، المهمة وغير المهمة، القديمة والجديدة، إضافة إلى نشر صورهم من بداية حياتهم وحتى لحظة تقلدهم مهام الوزارة، مستدلين بما قال الناس عنهم، وعدد الذين تنبؤوا بوصولهم إلى هذه المناصب الرفيعة، بسبب أمارات النبوغ والتفوق والذكاء البادية على وجوههم، ولا أكتمكم أن لي قصصاً مع بعض الإخوة المتحدثين، تتراوح بين الرضا الكامل نادراً والسخط التام غالباً، حيث إن قصص النجاحات قليلة جداً بما يجعلها بمنزلة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة، فمن النادر أن يدفعك بعض المتحدثين إلى أن لا تكتب عن بعض القضايا المؤثرة في وزارته، عندما يشعرك أن القضية هي قضيته وأن الوزير شخصياً قد أبلغه أنه ما وجد في هذا المكان إلا من أجل خدمة الناس، لا فرق في ذلك بين مواطن وآخر إلا من حيث تفاصيل القضية وأهميتها، وأذكر أن أحدهم صدمنا حين أفهمنا أن حقوق المواطن أكبر مما كنّا نعتقد وأكثر مما كنا نظن، خلافاً لما هو سائد عن المتحدثين، كما تكون متابعته جادة من لحظة إبلاغه بالقضية أو الكتابة عنها إلى نهايتها، على العكس تماماً من ذلك المتحدث (المهايطي) الذي كان يتقمص شخصية الوزير، ومن النادر أن تجد له صورة دون (بشت).

وأذكر أني كتبت عن وزارته أكثر من ثماني مقالات كما كتب غيري أكثر، ومع ذلك لم يرد، حتى ظننت أن الوزارة ليس لها متحدث رسمي، وما زاد من هذا الاعتقاد هو أن محركات البحث لم تعثر له على رد أو تعقيب، غير أن أحد الأصدقاء في نفس الوزارة أكد لي وجوده، لكنه قرن هذا التأكيد بابتسامة عريضة!، ثم زودني برقم جواله، لما تواصلت معه عرفت سبب تلك الابتسامة، إذ كان لديه مخزون هائل من (الهياط)؛ وصل إلى ذروته حين أبلغني أن بعضاً من الصحفيين والكتاب يريدون أن يشرِّفهم بالرد أو التعقيب على ما يكتبون! أنهيت مكالمتي معه على الفور، ولحسن الحظ أنه لم يمض على تلك المكالمة سوى بضعة أشهر حتى أُلغِيت تلك الوزارة وألغي صاحبنا معها فما عاد أحد يتواصل معه سوى زوجته وأطفاله!

متحدث آخر مشغول طوال الوقت بإعادة التغريد لوزيره حتى ما عاد معه وقت ليرد على تساؤلات الناس وأسئلة الصحافة، متحدث ثالث كان التواصل معه أصعب من التواصل مع الوزير نفسه! و لعل الإنصاف يدعوني لأن أشير في هذا المقال إلى المتحدث السابق لوزارة الصحة الدكتور خالد مرغلاني، إذ كان متفاعلاً جداً مع كل ما ينشر عن وزارة الصحة ومهتماً بالتوضيح وإجلاء الصورة، كما أنه من المتحدثين القلائل الذين جمعوا بين الأسلوب الرشيق والأدب الجم والوعد الصادق.

أكره أن ألبس ثوب الواعظ، ولو كنت مقام الناصح لأصحاب المعالي لوضعت في مقدمة أولوياتهم البحث عن متحدثين جيدين لبقين يجيدون التواصل مع الناس ووسائل الإعلام، وأن يبتعدوا عن قوالب الرد الجاهزة السخيفة، تلك القوالب التي تنفي كل شيء بطريقة آلية، وتستخدم أحاديث مطاطية تعني كل شيء بما يعني أنها لا تعني شيئاً على الإطلاق، هذا النوع من المتحدثين يخلق من حيث لا يدري انطباعاً سيئاً لدى الناس عن الخدمات التي تقدمها الوزارة، إلى درجة أن خطابه الاستعلائي الموغل في النرجسية سيحجب عن الناس كل حسنات الوزارة مهما كان حجمها، ويقيم بينها وبين الناس سداً منيعاً من عدم الثقة والشك والتوجس قد يصعب محو أثره أو إعادة بنائه من جديد.

فالمتحدث الرسمي بمثابة محامي الدفاع الأول عن الوزارة، وله دور لا يستهان به في ترشيد الأحبار المراقة على الصحف، والمسكوبة على رصيف وسائل التواصل الاجتماعي، ففي بعض الأحيان تشيع بين الناس حادثة معينة، وقد يصعب عليهم في البداية تصديقها، لكن صمت المتحدثين يقودهم إلى التشكيك فيها، وحين يطول هذا الصمت ينتهي بهم الأمر إلى تصديقها، ولأن المصدر مهم في إثبات المعلومات أو نفيها، فلا أعتقد أن إعلامياً محترماً سينقاد خلف الإشاعات، أو يكتب عن حادثة لم يتأكد من صحتها، ولذلك فهو مضطر للتواصل مع المتحدثين الرسميين لبعض الجهات الحكومية، من أجل التأكيد أو النفي، لكن المشكلة آتية من كون أولئك المتحدثين لا ينفون ولا يثبتون، بل تكون إجابتهم على طريقة ذلك الوزير الياباني الذي قال مازحاً شبه جاد: ليس عليَّ سوى تذكر عبارتين، يمكنني استخدام أي منهما في البرلمان عندما أكون في حاجة إلى إجابة، وهما "أمتنع عن الإدلاء بتصريحات بشأن قضية محددة، ونحن نتعامل مع المسألة على أساس القوانين والأدلة"، مع العلم أن تلك المزحة كانت سبباً كافياً للإطاحة به وإجباره على تقديم استقالته!

كثير من المسؤولين لدينا حين تحاصرهم الأسئلة ويجدون أنفسهم مضطرين إلى الإجابة؛ فإن إجابتهم لا تخرج عن إجابة الوزير أعلاه، هذا في حال الحاجة إلى إجابة، وإلا فإنهم على الأرجح سيتجاهلون أسئلة الصحافة أو يقاضون الصحفيين والكتاب عندما تكون معلوماتهم غير دقيقة، أو يطرحون أسئلتهم بشكل لا يرضى عنه الوزراء، وكثيراً ما يكون (التطنيش) لوسائل الإعلام هو سيد الموقف، هذا مع كونها سلطة رابعة! وليس أمامها في مواجهة هذا الوضع الرقابي المزري سوى أن تنتظر لبعض الوقت، ثم تبدأ في التعامل مع الحدث على أنه حقيقة، اعتماداً على النداء الذي أطلقه الأمير نايف بن عبدالعزيز، رحمه الله، قبل سنوات حين طالب الجهات الحكومية بالرد فوراً عن كل ما يكتب عنها في وسائل الإعلام، مبيناً أن السكوت من قبل الجهات الحكومية يعني إقراراً بما تم نشره وتأكيداً له، ومع ذلك فمعظم الجهات الحكومية لا تعبأ بهذا الكلام، ويذهب التذكير به كأنه صرخة في واد أو نفخة في رماد، مع أن الهدف من وجود متحدثين رسميين هو الحصول على المعلومة من مصدرها الصحيح، بهدف القضاء على الإشاعات والأخبار المكذوبة، فلا أدري ما فائدة وجود متحدثين رسميين إذا كانت الجهات الحكومية هي آخر من يتحدث، ولا تصل إلى الناس إلا بعد أن تكون تلك الأخبار والإشاعات قد طارت بها الركبان، ولاكتها الألسن، فصدقها من صدقها وأنكرها من أنكرها، وحققت الهدف المنشود من إطلاقها، فالإشاعة ككرة الثلج يكون حجمها بحسب الوقت الذي تستغرقه في الدحرجة، وكثيراً ما يصير حجمها عشرات أضعاف حجمها الطبيعي.