ربما كان الترفيه من أكثر الجوانب التي يتجاهلها الإنسان بوصفه كائنا عمليا، خاصة في هذا العصر الذي يتم بالحركية والعملية أكثر من أي عصر سابق، رغم أن عملية الترفيه يمكن أن تكون من أهم الجوانب التي تعزز الحالة العملية التي نشأ عليها إنسان الحضارة الحديثة، ولعل الحالة العملية اليومية هي واحدة من مفرزات الحضارة أو الرأسمالية التي يعتبرها البعض متوحشة في بعض جوانبها، كون الاستغلال الاقتصادي يعمل عمله في عملية الإنتاج، مما يعني مزيدا من العمل ومزيدا من الاستهلاك.

الحداثة الغربية أنتجت مفهوم الدولة النظامية أو التنظيمية أو البيروقراطية، وهذا الإنتاج استجلب معه عددا ضخما من الموظفين، الأمر الذي أنتجت الطبقة البرجوازية لاحقا، اعتمادا على الرأسمالية التي تفترض الإنتاجية في العمل، وقيمة الإنسان فيما يقدمه من عمل أكثر وأكثر، مما شكل طبقات كادحة كذلك، افترض لاحقا تعديلات تحد من تغول الاقتصاد في الدولة، أو تغول الرأسمالية في المجتمع. والحالة العملية تنتمي إلى هذه الحالة تحديدا، ولذلك يكون الترفيه واحدا من أهم العوامل على مسألة الإنتاجية متى ما صب الترفيه في الإنتاجية أكثر، ليتحول معه الترفيه أيضا إلى عامل من عوامل الاقتصاد في الدولة، لذلك تعتمد كثير من الدول على جانب الترفيه والسياحة في تعزيز اقتصادها. ديزني مثلا واحدة من كبريات الشركات في العالم التي تعتمد على مبدأ الاقتصاد الترفيهي ويزورها الملايين في السنة الواحدة، مما جعلها عائدا من عوائد الاقتصاد في أميركا، كما أن السياحة يمكن أن تكون وجها آخر من وجوه الترفيه والترويح عن النفس، لذلك كان أحد أهم الاقتصادات الحديثة متى ما تم استثمارها بشكل سليم وذكي، دبي مثلا، وهي الجوار الخليجي المنافس والأنموذج الاقتصادي غير النفطي، تعتمد جانب الترفيه والسياحة حتى أصبحت قبلة السياح الخليجيين أو حتى السياح الأجانب من الدول الأخرى، رغم أنها مدينة لا مقومات سياحية طبيعية لديها، لكن كان الترفيه محفزا لصناعة السياحة فيها، وعلى ذلك فلم يعد الترفيه في العصر الحديث كمالية اجتماعية عند طبقة اقتصادية معينة في المجتمع، بل أصبح ضرورة حياتية لكثير من الناس، ولعل نسبة السعوديين الذين يسافرون إلى الخارج من أجل السياحة والترفيه يتضاعف بشكل سنوي أكثر وأكثر، رغم أن أكثرية المجتمع من ميسوري الحال، وليسوا من طبقة الأغنياء، لكن بحكم التسهيلات السياحية وتوافر وسائل الطيران إلى عدد من الدول سمح للعائلات السعودية بتحوّل وجهاتهم إلى الخارج، الأمر الذي يفتح تساؤلا كبيرا على رغبة تلك العائلات في الترفيه والسياحة التي لا تتوافر في الداخل السعودي لأسباب اقتصادية وأخرى اجتماعية ودينية، تمثلت الأسباب الاقتصادية في تضخم المصاريف في الداخل بالمقارنة مع الدول المجاورة أو حتى البعيدة، وتمثلت الأسباب الاجتماعية في غياب بعض الحريات الاجتماعية، بل وربما غياب الأمن الاجتماعي أحيانا في الداخل لعدم انفتاح المجتمع على بعضه وقابليته للتعايش والتصرف بشكل حر في الشارع والمقهى والفندق وغيرها، وهذا ما تطلبه العائلات السعودية في الخارج من غياب لعين الرقيب الاجتماعي، وتتمثل الجوانب الدينية في وجود السلطة الدينية في السعودية في كل مكان وليس فقط في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تقلصت صلاحياتها مؤخرا، بل بالتضخم الديني حتى أصبح التدين أقرب إلى حالة تشدد من كونها حالة دينية طبيعية وروحية فردية تضيف للإنسان أكثر مما توديه إلى مهلكة التطرف.

والسعودية حينما وضعت الترفيه أساسا من أسس رؤيتها 2030 فإن العامل الاقتصادي كان هو المحرك في تصوري إلى وجودها، لأن الرؤية جاءت في الأساس اقتصادية قبل أي شيء آخر بعد أزمة النفط، وهذا ما يمكن أن يجعل الترفيه أحد أهم العوامل في تفعيل الاقتصاد في الدولة كبديل من البدائل العديدة للاعتماد على النفط، والإشكالية أن الاعتماد على الترفيه يحتاج إلى أرضية فكرية واجتماعية تعزز من وجوده، ولعل الأرضية الفكرية تتمثل في عملية تحديث في كثير من الرؤى الدينية والاجتماعية في النظر إلى كثير من الفنون أو النظر إلى العوامل الترفيهية التي تمنح المواطنين مزيدا من الحريات، وهذا يتطلب عملا في نقد البنية الدينية، ونقد البنية الاجتماعية التي يقف عليها كثير من المتطرفين الذين حولوا المهرجانات الترفيهية إلى الحنق العجيب على بعض الآلات الموسيقية أو الحنق على السينما أو حتى على الجوانب الثقافية البحتة، مثل معرض الكتاب أو الملتقيات الثقافية، وقبل ذلك العمل على إصلاح الجوانب الاقتصادية لدى المواطنين ورعاية حقوقهم الفردية والدينية والتعبيرية، والحق في الترفيه والعمل في كل الجوانب التي تصب في تحقيق الرؤى الفردية في المجتمع دون الخوف على العرض أو المال أو النفس، وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية والقانونية أمام المواطنين على مختلف تياراتهم ومذاهبهم ومعتقداتهم وإلا فإننا نقفز إلى عملية "مصّ" جيب المواطن أكثر من العمل على ترفيهه، مما يعني رأسمالية ترفيهية أكثر من كونها تحقيقا لتطلعات رؤية بعيدة المدى تكون في صالح المواطن وليس ضده.

التحديث الفكري والمجتمعي والديني يأتي قبل العمل على أي جانب من جوانب الرؤية، خاصة فيما يتماس مع حياة المواطنين وحاجياتهم، ومن هذه الأرضية يمكن بناء عملية الترفيه بحيث تعزز من قيم المواطنة والتعايش في ظل دولة الرفاه.