كل عام يكون القرار الأول على لائحة قراراتي السنوية (أن أقرأ أكثر) دون تحديد معيار رقمي لهذا (الأكثر)، ولذلك غالبا ينتهي العام وأنا أتلكأ على عتبة كتب الربع الأول من العام كما خططت لنفسي!
في محاولة للالتزام بقراري هذا العام قررت أن أتداوى بالقراءة، بأن أجعلها جزءا من روتيني اليومي مثل شرب الماء، المشي وتناول المكمّلات الغذائية! في الحقيقة استمتعت جدا بهذا القرار فليست القراءة إلا نزهة للروح على أية حال، وما دمت أهوى التنقل وأعشق الرحلات فكل كتاب سيمنحني رحلة مجانية في عقل وروح كاتبه! وجدت كذلك أن القراءة ساعدتني على خفض مستوى التوتر المصاحب لتسارع الحياة. ففي الوقت الذي يطالبنا فيه كل ما حولنا من وسائل الترفيه أو التواصل الاجتماعي أو حتى التعليم بالسرعة، يطالبنا الكتاب بالتركيز والهدوء والانفصال عن العالم للاستمتاع بالمفردات والأفكار مع كوب من مشروبك المفضل! هل لاحظت مثلا كيف تفقدك بعض الروايات العظيمة الإحساس بالوقت حتى تفاجئك خيوط الفجر وأنت ما زلت مستمتعا ومتعطشا للمزيد وكأنك في حضرة من تحب؟ هذه المتعة المجانية توفِّر أيضا تنبيها وتمرينا لعضلة المخ مما يحميها بإذن الله من بعض الأمراض المرتبطة بالتقدم في السن كالخرف أو الزهايمر! فما عقولنا كما تخبرني صديقتي سارة المهتمة بالزهايمر إلا عضلات تحتاج تمرينا بسيطا ومتواصلا للاحتفاظ بلياقتها وقدراتها ما دمنا على قيد الحياة.
إن تنويع قراءاتنا يفيدنا كذلك في اكتساب المعارف المختلفة ويحسِّن قدراتنا الإملائية والكتابية. فمن النادر أن تجد قارئا جيدا يملي بشكل سيئ، وذلك لأن عينه اعتادت على رؤية الكلمات وألفتها فيكتبها دون تكلّف أو مشقة، وهذا متوقع فالإنسان لا يمكنه أن يغرف من وعاءٍ فارغ، بل عليه كما ورد في الأثر أن (يملأ الكنائن) استعدادا للرمي. وبقدر ما تكون القراءة أحيانا هروبا من الواقع إلى أعماق كتاب ما إلا أنها تعدّنا كذلك للواقع فنواجهه بعقلية أكثر قدرة على الاستنباط والتحليل والنقد، وفي ذلك يقول أحدهم: (إذا كنت تصدق كل ما تقرأه فعليك أن تتوقف عن القراءة فورا). هذا القول بحد ذاته منصف للقارئ والكاتب لأن بعض القراء لا يريد أن يكلّف نفسه عناء التفكير فيما يقرأ فتراه يمتص كل ما يرد عليه كالإسفنجة دون أن يضفي على قراءاته شيئا من وعيه الخاص، وهذه خسارة حقيقية، إذ كيف يمكنك أن تدّعي قراءة أي كتاب بدون أن تترك على حواشيه بعضا منك في صورة انطباعات أو تعليقات أو نقد؟ شخصيا أميل لتشبيه الكتب بالبشر فما تعارف منها ائتلف، ولذلك إذا كنت لم تقع في غرام القراءة حتى الآن فلعلّ السبب أنك لم تجد نصفك الآخر. الحل هو أن تجرب أنواعا مختلفة من الكتب حتى تجد ضالتك وعندها لن تكون وحيدا أبدا فالكتاب موجود دائما لاحتضانك.
خلاصة القول، سواء كنت من عشاق الكتب ومدمني ملمس الورق ورائحته المهدئة للأعصاب أو ممن يطيب له تصفّح أجهزة القراءة الإلكترونية فنصيحتي لك هي ألا تقرأ فقط، بل أن تتداوى بالقراءة ولا تخش من تجاوز الحدّ الأعلى من الجرعة، فقد يكون هذا هو الدواء الوحيد في العالم الذي زيادته من صالح صاحبه ومن حوله.
أخيرا: "الكتاب هو المكان الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه غريبان بحميميّة كاملة" مي زيادة.