نحن مجتمعات معولبة، نحب التعليب ونعشقه، لا بل نحن أكثر من ذلك، نحتاج أن نضع للعلبة مقاييس خاصة مثل خطوط الطول والعرض والارتفاع حتى يسهل علينا أن نحبس الناس في داخلها. العولبة لدينا جاهزة وقاعدتها الأصيلة "من ليس معنا فهو ضدنا". لنذكر مثالا:
قبل أيام قامت حملة إلكترونية في وسائل التواصل الاجتماعي تضامنا ومناصرة للشعب السوري، وجمال هذه الحملة أنها كانت وقفة إنسانية خالصة جدا بعيدة عن التعقيدات السياسية، وقفة عنوانها الطفل السوري، سواء كان مع النظام أو ضد النظام أو حتى داعشي، فهم جميعا لا حول لهم ولا قوة، الحملة تنعى الجميع وترفض وحشية الجميع. وكما تلاحظون الحملة غائبة عنها ثقافة التعليب، ولذلك كانت مثار نقد للكثير كونها إنسانية خالصة!
دعونا نأخذ مثالا آخر لهذه الثقافة: قبل أيام قلائل ثارت ثائرة بعض مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي بعدما بثت قناة العربية الخميس الماضي تحقيقا كشف فيه أحد سجناء تنظيم القاعدة في السعودية عزمه إقامة دعوى قضائية ضد رجل دين حرضه على الالتحاق بالتنظيم، وكشف كذلك عن نية عدد كبير من السجناء مقاضاة من تسبب في تورطهم بالإرهاب. ثقافة التعليب ظهرت في بعض التغريدات التويترية وأذكر منها:
1 - "التقرير جاء ضمن تصفية حسابات مع الفكر الإسلامي، هؤلاء يريدون تحريف الحقائق واتهام الإسلام بالإرهاب". 2 - أحدهم يتساءل ساخرا: "بمناسبة حساب المحرضين؛ الجمهور الصفوي يتساءل: متى ستبث القناة الجزء الثاني من حكاية حسن"؟.
3 - "أخي الداعية إياك أن تتحدث عن أحوال المسلمين، وإذا تحدثت فذرفت دموعك حزنا على حالهم، فأنت محرض تستحق المحاكمة في نظر العربية". وأنا أتساءل: لماذا كل هذا الغضب من الملاحقة القانونية لمحرضي الإرهاب؟ هناك بعض رجال الدين العلماء الأفاضل المعتدلين الذين يجب احترامهم وتقديرهم، لكن الكلام هنا خاص فقط بالمحرضين الذين يقومون بتزيين العمل الإجرامي في نفسية وعقلية الشاب المتحمس، والإيحاء له بأن عمله هذا، نوع من الجهاد، وأنه إذا قتل فهو شهيد، ومكافأته الجنة، وأن حورها في انتظاره، وما عليه إلا أن يسارع في التنفيذ. والسؤال الآخر: هل هي المرة الأولى في تاريخ المملكة التي تطرح فيها محاسبة المحرضين؟ الجواب: لا، فقبل 8 سنوات قامت وزارة الداخلية بضم فئة "المحرضين" ضمن لوائح الإرهاب إذ شملت اللائحة صنوف "الحرابة" من تفجير واغتيال وخطف وترويع، وما ارتبط بذلك من تهيئة وتدريب وتجهيز وتمويل وتحريض وتثبيت، وفئة "المثبتين" هنا هم الذين يقومون بتثبيت عزيمة من نوى القيام بعملية انتحارية، والشد من أزره ورفع حالته المعنوية والدعاء له، كي لا يعدل عن قراره بالانتحار، ويأتي دور المثبت قبل وقت تنفيذ العملية بمدة وجيزة.
في نظري أن محاكمة المحرضين محاكمة قانونية، وهي خطوة تستحق الإشادة، وهنا أود التعليق بشأن ذكر أسماء المحرضين أو نشر صورهم قبل محاكمتهم محاكمة قانونية، فهذا الأمر يعد انتهاكا للحق الإنساني الذي يقول: المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة تؤمّن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع في جميع مراحل التحقيق والمحاكمة وفقا للقانون.
أخيرا أقول: نحن كبشر وكمواطنين نأمل دائما بعالم مستقر آمن وعادل، لأن قيم العدالة والمساواة وكرامة الإنسان هي البناء الإستراتيجي للدولة الحديثة.