وكم كنت أتمنى على الدوام ألا ينجرف المجتمع خلف الصياغة الأولى للخبر، ومثلما قلت بالأمس فلكل قصة خبرية عشر كاميرات ولكن المخرج لا يريد لنا سوى أن نرى خراج كاميرا واحدة. ما هو الخبر وما هي القصة؟
مساء ما قبل البارحة سهر المجتمع الفضائي الفاضي على قصة طبيب أسنان قام بإحراق شهادته الجامعية أمام وزارة الخدمة المدنية لأنه لم يجد بهذه الشهادة طريقاً إلى وظيفة. تحول الخبر إلى "هاشتاق" وطني ثم في مرحلة تالية إلى "ترند"، وحظي هذا الشاب بتعاطف شعبي واسع قبل أن تتضح الصورة كاملة في بيان الخدمة المدنية. وزارة الخدمة المدنية قامت بتشغيل الكاميرات التسع المخفية حول جوانب القصة: هذا الشاب حصل على الدرجة الجامعية في طب الأسنان وبتقدير "مقبول" من جامعة أردنية، وأمامه أيضاً، فتحت أبواب الوظيفة، وآخرها في مدينة نجران لكنه رفض أن يقبل بها أو حتى أن يتقدم إلى المنافسة عليها. أحرق هذا الشاب شهادته لأنه وبتقدير المقبول ومن جامعة أردنية خاصة، حفظه الله، كان يطمع أن تكون الوظيفة داخل "المثلث الذهبي" الطبي بالرياض في المسافة ما بين التخصصي والعسكري ومدينة الملك فهد الطبية. نسي أنه تخرج من الثانوية العامة بمعدلات لم تقبل بها كلية طبية سعودية فذهب إلى كلية أردنية خاصة ولم يعد منها سوى بـ"المقبول"، ثم عاد ليستعلي على مجتمعه لأن مناطق مثل نجران أو الجوف أو جازان لا تليق بشهاداته العالمية المحترمة. لهذا أحرق شهادته وهو بالضبط، ودون قصد فعل بيديه أصدق ما يليق بهذه الشهادة.
قصة هذا الشاب، وبعد بيان وزارة الخدمة المدنية حولها، تصلح مادة لما "وراء الخبر".
وهنا سآخذكم للقصة الشهيرة صيف العام الماضي، وعن الأم التي سقطت جثة في ساحة جامعة تبوك لأن ابنتها لم تقبل في كلية الطب رغم أنها كانت الأحق الأولى بالمقعد. ويومها ضج المجتمع وفضاؤه الإلكتروني تعاطفاً مع هذه الأم وهجوماً لاذعاً على الجامعة قبل أن يكتشف الجميع أن "الفتاة" نفسها لم تكن ترغب الانتظام بكلية الطب ولم تصفها أبداً ضمن خياراتها الخمس في الطلب الإلكتروني "الموثق" للقبول في الجامعة.
والخلاصة أن لكل قصة خبرية زواياها العشر فلا يأخذنا أحد إلى الزاوية الوحيدة التي يريد ولا إلى الكاميرا الوحيدة التي يريد أن يفرض علينا مشاهدتها بالتضليل والتمويه. هذا الشاب أحرق شهادته أمام كاميرا واحدة دون أن يدرك أن الكاميرات التسع المثبتة ستفضح أمام هذا المجتمع كل جوانب القصة.