بحسب القرآن الكريم، فإن إبليس لم يستحق اللعن لأنه كان شاربا للخمر أو متطلعا للسرقة والزنا وما إلى ذلك من المعاصي الشهوانية. بل إنه لم يستحق اللعن بمجرد عصيانه أمر الله، ذلك العصيان الذي تورط فيه آدم واستغفر فتاب الله عليه.

لُعِن إبليس لانطوائه على سمتين قلبيتين هما "الكبر والحسد". تعامل مع آدم بعنصرية، وأبطن له الكراهية، وسعى للكيد له بدافع من نسيج الحسد والكبر المعقود في قلبه.

يعالج كثيرون قضية "التعصب الديني" بالنظر إليها كنوع من "الإفراط في التدين"، أي أنه طرف نظير لوضع سلبيّ آخر هو "التفريط في التدين" ويرون أن الحل يكون مصحوبا بالوسطية والاعتدال بينهما.

هم ينظرون إلى التدين كما ينظر الأطباء إلى نسبة السكر في الدم، باحثين عن الأنسولين الذي يعادلون به النسبة بشكل دائم بين الإفراط والتفريط، فالمشكلة لا علاقة لها بالنوعية، بل هي محض كمية فقط.

ولكن، يبدو لي عند تحليل خطاب كثير من المتعصبين أمرٌ خلاف ذلك، فعند النظر على سبيل المثال إلى ما يتصوره هؤلاء عن علاقتهم بالإله، نجد أنهم لا يقفون عمليا عند الاعتقاد بأنهم متعبدين لله، بل يرون أنفسهم عمليا صادرين عن علمه محققين إرادته، وعلى ذلك تنبعث علاقتهم مع "سواهم من البشر مسلمين وغير مسلمين".

إنهم لا ينظرون "عمليا" إلى الناس كحشود محيطة بهم، بل كأهداف لإنجاز مشيئتهم، ولا ينظرون "عمليا" إلى الله الذي معاشهم منه ومعادهم إليه كمستغنٍ عن عونهم وآرائهم في سبيل تحقيق حكمته.

عند تأملنا في ذلك، ربما ندرك أن الأمر ليس كميّا فحسب، بل هو نوعي أيضا. فهم يصدرون عن طريقة في التدين لا تتسق مع فكرة الإيمان القرآنية، بل هي أقرب إلى النسق الإسرائيلي المتكبر "نحن أبناء الله وأحباؤه" الذي أشار إليه القرآن في أكثر من موضع.

إذن، فالأمر ليس مبالغة في الاعتقاد، بل لعله من خلال مفارقة ما ينبئ عن هشاشة في الإيمان! فنحن يحق لنا التساؤل عن الدافع الذي يؤدي بمؤمن مطمئن من سلامة نهجه، للنيل من مخالفي رؤيته والسعي إلى انتهاكهم؟ أليس الأولى بمن ركن إلى سكينة كهذه أن يعيش ممتنّا لما يشعر به، راغبا أن يشاركه الآخرون فضلا لا ينقطع ولا ينقص بالمشاركة؟ ما المبرر في تحول مشاعره من الرفق بهم إلى السخط عليهم عند إعراضهم؟

ألا يوحي هذا بعدم طمأنينته بما لديه؟ ألا يشي بخوف كامن يقلقه بين الحين والآخر، خوف يحاول تقليصه بواسطة الاستقواء بعدد من الناس يركن إليه فيهدئ روعه بهم أنه على الحق؟.

في ظل قلق كهذا، سيكون من المزعج أن يستظل غيره بما حرم نفسه منه، وينعم سواه بما فوّته على نفسه من سعة الحياة. هنا ينهض الحسد الذي يجر معه الغضب على "سواه من البشر مسلمين وغير مسلمين".

ربما تساعد درايتنا بهذه الهشاشة الإيمانية المتنكرة، في تفسير كثير من سلوك المتعصبين دينيا، فنفهم على سبيل المثال كيف يستسهلون خرق القيم التي يؤمنون بها تحت دواعي خدمة الدين ومصلحة الأمة، بحيث نراهم حريصون على حيازة النتائج وإدراكها بحواسهم المجردة على نحوٍ مستعجل، وتنحجب عن أذهانهم "وترجون من الله ما لا يرجون"، تلك الآية التي حضرت في ذهن عمر المختار "رحمه الله" ذات يوم فتمثل بها، مانعا أصحابه من التورط في جرائم الحرب التي كان يرتكبها أعداؤهم، فالأمر بالنسبة لعمر المختار ليس محصورا في دائرة الدنيوي المنظور، بل ممتد إلى فضاء الآخرة الذي يؤمن بحقيقته يقينا، فترجم إيمانه بتمثّله لما يمليه عليه من قيم، وما يرجوه تحت ظلّه من نِعم.

إذن، فهو تدين منحرف في نوعيته وليس مغاليا في كميته فحسب، كما أنه تدين منطوٍ على الخطيئتين الأصليتين اللتين أشار القرآن الكريم إليهما في قصة إبليس وطرده من ملكوت الجنة.

خطيئتان عند التمعن فيهما، ندرك أنهما تجليان للشيء ذاته، ففي كل حاسدٍ متكبّرٌ كامن وفي كلّ متكبّرٍ حاسدٌ مترصّد. ذلك أن كليهما منتظر أن يعامله الله بحق سابق له عنده، فيسخط إذا مُنع عنه، ويصعّر وجهه عن الشكر إن أُعطيه، فهو الحاسد عند حرمانه والمتكبر عند إتيانه.

وعليه، فإني أكاد أجزم أن معظم هؤلاء المتعصبين دينيا "ومثلهم معظم المتأدلجين قوميا وطبقيا" عند رصد سلوكهم في معاشهم مما هو خارج نطاق الأيديولوجيا التي يهتفون بها، فلن يخلو الأمر أيضا من تمظهرات لهاتين الخطيئتين، وإن كانوا لا يشعرون.

"قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا".