حظيت التعديلات الوزارية الجديدة التي أقرتها الحكومة أخيرا بتأييد واسع من كافة المتابعين، كونها لامست احتياجات المجتمع، ولبت رغبات غالبية المختصين، في ضرورة التخلص من الترهل الإداري، وأزالت في نفس الوقت التضارب في الصلاحيات والاختصاصات والمهام والذي ظهر في بعض الفترات. ولا يعني هذا بالضرورة أن التقسيم الإداري السابق كان خطأ أو شابه نوع من القصور، فعلماء الإدارة يجمعون على أن الاحتياجات الإدارية تتغير بين كل فترة وأخرى، فما يكون ضروريا اليوم قد لا يكون كذلك غدا، وما لم نحتج إليه بالأمس يمكن أن يصبح اليوم ضرورة لا غنى عنها، ذلك أن الإدارة من الاحتياجات المتغيرة التي تختلف باختلاف الزمان المكان وظروف الإنسان.
كما أن تلك التغييرات كانت ضرورية وحتمية، لتوفير المعينات الإدارية اللازمة لتنفيذ رؤية المملكة 2030، وإيجاد البيئة المواتية لتنفيذها، فالذين تسلموا العمل في كافة الوزارات –لا سيما الاقتصادية والمالية – هم من الذين أسهموا في إعداد الرؤية، ويدركون أدق أبعادها، وبالتالي فهم الأقدر على تنفيذها على أرض الواقع. وإضافة لذلك فإن التغيير في حد ذاته ضرورة ماسة لأجل تجديد خلايا العمل الإداري وبث مزيد من الدماء الشابة في شرايينه، ومنحه قوة دفع إضافية.
ومن أهم مزايا الرؤية الجديدة أنها تعيد صياغة هويتنا في العالم، بعد أن كدنا نتحول إلى مجرد تاجر كبير للنفط، يعتمد على الآخرين في أدق احتياجاته، ويستورد أبسطها، أما في السنوات المقبلة، بعد أن يتم تنفيذ رؤية 2030 الاقتصادية والاجتماعية، فسنكون في مصاف الدول الأخرى المؤثرة في مجالات الصناعة والتجارة واقتصاد الألفية الجديدة، دون تغليب لمورد اقتصادي على آخر. ستنال الصناعة قدرا كبيرا من الاهتمام، بما يؤدي إلى إيجاد مزيد من فرص العمل، وستكتسب التجارة والثقافة والسياحة آفاقا أخرى بمضاعفة عدد المعتمرين والحجاج والزوار والفعاليات والمهرجانات، وسيكون هناك أمام أبنائنا وأجيالنا المقبلة مزيد من المعينات التي تساعدهم على تسلم رايات العمل والإنتاج.
ولأن الجهد البشري عرضة للانتقاص دوما، ودورنا كمثقفين يقتضي منا الجهر بما نراه، انطلاقا من واجب النصيحة وإسداء النصح، نرى أن الحماسة لتنفيذ برامج الرؤية، وتجديد دماء الاقتصاد، وتنفيذ الإصلاحات ينبغي ألا يدفعنا لتجاهل الجوانب الاجتماعية الأخرى، فمن عوامل تفرد الرؤية أنها اهتمت بدعم المجتمع ومساندة الشرائح الفقيرة، بأكثر من اهتمامها بالجوانب الأخرى. ففي ما يتعلق بدمج وزارتي الشؤون الاجتماعية والعمل في وزارة واحدة، ينبغي الاهتمام ببرامج القضاء على الفقر والمساعدة في التعلم وبقية البرامج الاجتماعية الأخرى، كما نأمل الإعلان عن تأسيس وكالة داخل الوزارة، تعنى بشؤون الأسرة، يُعهد بها لإحدى الكفاءات الوطنية المتخصصة في هذا المجال من سيدات الوطن المعطاء، على أن تكون مهمتها الأساسية الحرص على تعزيز البناء السليم للأسرة، والحفاظ على قيمها الموروثة من الدين الإسلامي، والموروث الاجتماعي الأصيل، لأن الأسرة المثالية -كما نعلم- نواة لمجتمع سليم معافى.
مجتمعنا كما يصفه الكثيرون مجتمع أسري، يقوم في الأساس على هذا المبدأ، ومنه اكتسب خصائصه وخصوصيته، لذا من الضروري إيلاء أهمية إضافية للبرامج الاجتماعية الرامية إلى دعم الشرائح الأقل دخلا في المجتمع، ومساعدة الشباب على الزواج، والاهتمام بشرائح المطلقات والأرامل ومحدودي الدخل، وهذه الفئة وإن كانت في معظم بلاد الدنيا من أكثر الفئات المهملة، فقد حظيت في بلادنا منذ تأسيسها بكثير من الاهتمام والرعاية، وبرامج الضمان الاجتماعي خير شاهد على ذلك. كما أن هناك دعما كبيرا غير مباشر لقطاعات الأسرة والمجتمع والشباب، يتمثل في رفع كفاءة الخريجين ودعم برامج تدريبهم، وتقليل نسبة البطالة بمقدار يقارب النصف في وقت قياسي. إضافة إلى دعم برامج الإسكان، وتوفير مساكن للأسر السعودية، وفق خطة محددة يتم تنفيذها في إطار معلوم بآجال تم وضعها وفق دراسات علمية واضحة.
وتبقى هناك نقطة أخرى، تتمثل في أهمية الحفاظ على التقاليد الاجتماعية المستمدة من الإسلام والموروث المحلي العريق، فغالبية المجتمعات تتقاذفها تيارات ثقافية وفكرية متلاطمة، ولا ينبغي إغفال أن مثل هذه الصراعات قد تكون معوقا لعملية التنمية، بما تفرزه من حالة عدم استقرار مجتمعي وأمني. وهذا أيضا لا يعني الانغلاق والانكفاء على الذات، فالتجديد مطلوب والانفتاح على العالم هدف لا حياد عنه، لكن ينبغي أن يتم كل ذلك وفق قاعدة واضحة، مفادها التأثير والتأثر الإيجابي بما لدى الآخرين دون استلاب أو إضاعة للهوية، أو تنازلات غير موضوعية، فالأمن الاجتماعي يوازي في أهميته وضرورته الأمن الفكري، وكلاهما لازمان لتحقيق النماء والتطور والازدهار.