التواصل مع الآخر يتأثر بشكل كبير بتصوراتنا عن الذات وعن الآخر. هذه التصورات تؤثر على المشهد والأساسي: الوجود مع وللآخر. الوجود مع الآخر حقيقة إمبيريقية تفرضها حقيقة التجاور والقرب بين البشر. الوجود للآخر (تحمل مسؤولية الآخر) يبدو في كثير من الأحيان نتيجة مباشرة للوجود مع الآخر. نلاحظ مثلا مرور متسول ما أمامك في الطريق وأثر هذا المرور. مشهد مروره ومشاعرك تجاهه مهمة لإيضاح فكرة هذا المقال. أولا مشهد مرور المتسول لا يمكن تجاهله حتى وإن حاولت صرف النظر عن هذا الشخص. سيبقى مروره يسري في ذهنك وفي مشاعرك. مرور هذا الإنسان غالبا مربك لسببين: أولا شعورك بالمسؤولية تجاه هذا الإنسان رغم أنك لا تعرفه شخصيا ولكنك تعرف أنه إنسان. السبب الثاني أنك تعلم أنك لن تستطيع حل مشكلة هذا الإنسان. يربكنا هذا المشهد حتى يرحل عنا هذا الشخص أو نرحل عنه ويتولى بعد المكان تخفيف إحساسنا بالمسؤولية إلى أجل محدود. هذا هو المشهد الأول المباشر: الوجود مع وللآخر. تصوراتنا عن ذواتنا وعن الآخر تأتي لتقول لنا ماذا نفعل تجاه هذا المشهد الأول. على سبيل المثال أحيانا نتبنى تصورا عن الآخر (المتسول في هذه الحالة) على أنه مدمن مخدرات لنمنع ردة فعلنا المباشرة في مساعدته والتبرع له. هذا التصور عن هذا الإنسان يهدف لخلق علاقة مع الآخر تخضع لحسابات مختلفة عن حالة المشهد الأول. مثلا في تربية العنصرية نجد الأطفال في البداية لا يفرقون بين بعضهم البعض بناء على الدين أو العرق أو الجنس. هذا هو المشهد الأول لكن تأتي لاحقا التصورات الثقافية عن الذات والآخر لتتحكم في المواقف المباشرة الأولى. هنا يبدأ الطفل في تعلم أن لا يلعب مع الطفل الآخر بسبب لونه أو بسبب دينه أو بسبب جنسه. هذه التصورات تعمل على حجب الذات عن الآخر في كثير من الأحيان. في المقالة السابقة تحدثت عن كيف تحجب الثقة المفرطة في الذات والشك المفرط في الآخر فرص التواصل بينهما. هذه الحالة يعبر عنها هذا الموقف: س: لماذا لا تقول ما يُفهم، ص: لماذا لا تفهم ما يُقال. في هذا المقال سأحاول التركيز على دور التواضع في فتح مساحة لتواجد الآخر مع الذات من جديد. التواضع هنا عودة للمشهد الأول ومقاومة للتصورات السائدة عن الذات والآخر. سأتحدث عن مستويين من التواضع: التواضع بالمعنى الأخلاقي والتواضع بالمعنى المعرفي وعن كيفية عمل هذا التواضع كضيافة للآخر.

التواضع بالمعنى الأخلاقي يعني العودة لحالة المشهد الأول: الوجود مع وللآخر. هذا التواضع يعمل ضد التصورات التي تؤسس لهذه الحالات الطاردة للآخر: الوجود للذات، الوجود المستقل، الوجود المكتفي بذاته، الانغلاق على الذات، الآخر كوسيلة لتحقيق رغبات الذات، الآخر في حدود ما تريده الذات، الآخر في حدود ما تفهمه الذات. العودة للمشهد الأول تعني إدراك دور الآخر كشريك للذات، ليس فقط في العالم بل كشريك في تشكيل الذات نفسها. التعبير الدقيق لهذه الحالة هو أنه لا وجود للذات بدون الآخر. الآخر هنا ليس أداة تستعملها الذات لتحقيق رغباتها وأهدافها، بل كشرط وأساس لوجود الذات. هذا المشهد تعبير عن حالة الضيافة حين يعتقد المضيف أن لا وجود ولا معنى لضيافته بدون تلك الزيارة التي يقوم بها الآخر. الضيافة هنا ليست استعراضا للقوة رغم أن الضيف قد يكون في أشد حالات ضعفه. الضيافة إعلان بأن هناك دائما مكانا للآخر. وجود الآخر في هذا المكان يجعله هو صاحب الفضل وهذا هو فعلا شعور أهل الضيافة: الامتنان للضيف والشعور بكرم قدومه وزيارته. لا شيء يناقض الضيافة مثل التفاخر والاستعراض بها. الضيافة نقيض الكبر. التكبر طارد للآخر بينما التواضع إعلان لمساحة دائمة مفتوحة في الذات للآخر.

التواضع بالمعنى المعرفي يعني إدراك الذات لمحدودية معرفتها. هذا الإدراك يفتح الباب لقبول الاختلاف والحوار. إدراك محدودية الذات يعني فتح المجال للآخر في المشاركة والإضافة. التواضع المعرفي يؤسس للعمل التعاوني في إنتاج المعرفة. لهذا نعلم لماذا يواجه مدعو الحقائق المطلقة مشاكل جوهرية في التواصل مع الآخر. في الحقيقة المكتملة الناجزة النهائية لا دور للآخر إلا دور التبعية والتنفيذ. من هنا نفهم كيف يكون الكبر عنفا ضد الآخر. الكبر يحد من وجود الآخر ويكبت حضوره خارج استعمال الذات المتكبرة. الكبر هنا عداوة لحرية الآخر. المتكبر هنا يشبه بيتا مغلق الأبواب أو بيتا مصمتا بلا أبواب. المتواضع في المقابل يشبه بيتا مشرع الأبواب أو بيتا مشرعا بلا باب. التواضع المعرفي عبارة عن جملة تنتظر الآخر ليكملها، عبارة عن حكاية جماعية لا تنتهي وحوار بلا خاتمة.

التواضع هنا بمستوييه الأخلاقي والمعرفي يعمل ضد الثقة المفرطة في الذات والشك المفرط في الآخر. التواضع هنا يعيد الثقة بين الذات والآخر ويعيد فتح المساحة المشتركة، المساحة البينية، المساحة المفتوحة للجديد والمختلف والمفاجئ.

التواضع ضيافة لأنه انفتاح على الآخر. المتواضع الحقيقي لا يشعر أنه متواضع فهو لا يشعر بالفوقية ليقاومها بل يعتقد أن ما يفعله هو الحال الطبيعي. المضياف في المقابل يشعر أن الضيافة هي الحالة الطبيعية ولا يعتقد أنه يقوم بما هو غريب. الضيف بالنسبة للمضياف الكريم هو صاحب الفضل كما هو الآخر بالنسبة للمتواضع.