قبل أيام، في منزل الشيخ عبدالله باحمدان حوار مفتوح جمعني بكوكبة من أهل الفكر في المملكة التقوا نظراءهم من أهل الفكر في اليمن الشقيق، بينهم وزراء يمنيون، وكان نجم الحفل دولة السيد خالد بحاح نائب رئيس الجمهورية اليمنية السابق.

وسبحت بفكري بعيدا بعدما لفت نظري اهتمام المفكرين السعوديين بما يدور في اليمن، وملاحظاتهم الدقيقة على تفاصيل كثيرة في الداخل اليمني كشفت لي عن درايتهم الكاملة بالوضع هناك، فقد كانوا يناقشون الشأن اليمني وكأنهم يناقشون شأنا سعوديا، وكان السيد بحاح شفافا في أجوبته، وصريحا كعادته.

ولقد ظللت أفكر طويلا بعد هذا الاجتماع في شأن المثقف السعودي، وكيف أن بلدنا ثرية بنخب عريضة من المفكرين في مختلف الشؤون، وكيف أن الرياض بهذه القوائم الطويلة المهمة من مفكريها ومثقفيها تمتلك المقوم الأهم من مقومات الريادة الفكرية والثقافية، وكم هي مؤهلة لتكون وجهة للأشقاء العرب لا اليمنيين أو الخليجيين وحسب، يجتمعون في ملتقياتها الفكرية، ويتبادلون مع أشقائهم السعوديين وجهات النظر والأطروحات الفكرية على مستوى جميع الصعد السياسية، في مشهد امتزاج فكري نحتاج إليه كثيرا في الظرف الراهن الذي تعيشه بلداننا.

ولقد كانت المملكة وجهة لملايين المسلمين من الأقطار العربية على مدار تاريخها، يفدون علينا إخوة كراما لأداء مناسك الحج والعمرة، فما الذي يمنع أن تكون بلادنا وجهة للرأي العربي، وملتقى لأهل الفكر في مثل هذه اللقاءات التي تجسد حالة من الوحدة العربية، والتقاء الأشقاء حول شؤون بلدانهم، والتقارب الثقافي والسياسي والإنساني والاجتماعي، فمثل هذه الملتقيات تؤسس لحالة من الود والتعايش والتوافق حول قضايانا العربية المصيرية المشتركة، وهو أمر نحن في حاجة ماسة إليه، فكثير مما نعالجه اليوم بالمقاتلات الحربية، كان من شأن هذه اللقاءات بوصفها قوة ناعمة أن تكفينا مؤونته، فماذا –مثلا- لو كان الفرقاء من الأشقاء في اليمن منذ زمن مبكر يجلسون هنا بيننا نقارب بين وجهات نظرهم، ونجمع شملهم، ونؤلف بين قلوبهم، فهذا كفيل بأن يقطع الطريق على دعاوى الفرقة بينهم، ويصعب مهمة اختراقهم من أي قوة خارجية لا تريد الخير لبلادهم.

إنني متفائل جدا بقدرة بلادنا على أن تكون بيتا كبيرا للأشقاء، يلتقون فيه، يطرحون هواجسهم ومخاوفهم ورؤاهم هنا بين إخوتهم في الرياض والذين بدا لي من النقاش الراقي في هذا اللقاء أنهم حريصون أيما حرص على مصالح أشقائهم، ومشغولون بهم أيما انشغال، ومتابعون لشأنهم أيما متابعة، وليس هذا شأنهم فيما يخص الساحة اليمنية وحسب، فلقد التقيت إخوة مفكرين من أبناء المملكة على دراية عميقة وواسعة بشؤون كثيرة في جميع الأقطار العربية، وهذا يدعونا بقوة إلى الالتفات إلى أهمية المفكر السعودي، والدور الكبير الذي يمكن أن يضطلع به في مستقبل الأمة العربية والإسلامية، ومدى أهمية التوسع في مثل هذه المحاضن الفكرية والملتقيات الثقافية الأخوية لتكون قبلة لأهل الفكر والثقافة من جميع الأقطار العربية، حتى تتبوأ المملكة مكانتها اللائقة بها، بوصفها وجهة للفكر العربي، في ظل ما تزخر به من طاقات فكرية هائلة يقف المرء مندهشا أمامها.

إن الوضع الراهن يضع على كاهل المملكة هذه المسؤولية، وهي وإن كانت مسؤولية إضافية إلى المسؤوليات الجسام الملقاة على كاهل بلادنا، إلا أن بلادنا ليست بالتي تكل ولا تمل من تحمل مسؤولياتها تجاه أشقائها، وهي الدولة السباقة إلى جميع المبادرات العربية والإسلامية من أجل الخير للأشقاء، وهي أولى بتصدر المشهد الفكري بعد هذا الثمن الكبير الذي دفعته من أجل الأشقاء في جميع دول المنطقة، وفي ظل وقفاتها الكبيرة التي لم يعد بوسع أحد أن يزايد عليها أو يقلل من شأنها، فما الذي ينقص بلادنا حتى تقود المشهد الفكري، وهي التي تقود المشهدين العسكري والاقتصادي، ومن قبل كانت تقود المشهد الإنساني قبل عقود، لكنها تفعل ذلك في صمت، حتى إنني اطلعت على إحدى الدراسات لباحثين غير سعوديين يلومون على بلادنا تقصيرها في الترويج للمبادرات الإنسانية التي تقوم بها في المنطقة والعالم. بالطبع هذه وجهة نظر الباحثين، وهم معذورون لأنهم لا يعرفون أن مسألة الترويج هذه ليست ضمن اعتبارات بلادنا، وأن الاعتبار الأساس لبلادنا في مثل هذه الوقفات الإنسانية، هو استشعارنا لمسؤوليتنا، وحرصنا على الاضطلاع بواجبنا، بوصف بلادنا مهد دعوة الإسلام وحاضنة مقدساته.

وإنني انطلاقا من هذه المسؤولية التي دأبت بلادنا على تحملها، أدعو المعنيين بالشأن الفكري إلى الالتقاء حول آليات من شأنها أن تجعل من بلادنا وجهة للفكر والرأي العربيين، وقبلة للأشقاء فيما يعن لهم من رؤى ثقافية وفكرية قد يفترقون حولها، وهنا يكون دور بلادنا لمّ الشمل، وتقريب وجهات النظر، ورأب الصدع الفكري والثقافي الذي قد يحدث في أي قطر من الأقطار العربية، فهذا من شأنه أن يجنبنا كثيرا من صدامات المستقبل، وهذا من شأنه أيضا أن يبوئ بلادنا المنزلة التي تستحقها بقيادتها الحكيمة، وبمكانتها الكبيرة، وبتاريخها المنير، وبمفكريها الكبار القادرين على إدارة المشهد الفكري العربي ببراعة لا يساورني شك فيها.