ذكر تقرير صحفي نشر في إحدى الصحف المحلية، أن من أبرز المعوقات التي تواجه ديوان المراقبة العامة تجاهل كبار المسؤولين في الأجهزة الحكومية ملاحظات الديوان وعدم الرد عليها، والكشف عن الإجراءات التي اتخذتها لتحصيل المبالغ التي أبدى ملحوظات بشأنها، بالإضافة إلى عدم تمكين الديوان من قبل وزارة المالية من فحص الحساب الختامي للدولة وفحص حسابات البنوك!

كما تضمن التقرير الصحفي أيضا عدم قدرة ديوان المراقبة على التوسع في عمليات المراجعة المالية ورقابة الأداء، ومعاملة تقارير الديوان كمعاملة التقارير السنوية للجهات الحكومية التنفيذية عند الدراسة والمناقشة، وبذلك تفقد ملاحظات الديوان أهميتها وجدواها، وبالتالي عدم تنفيذ توصيات الديوان، مما يؤدي إلى تكرار المخالفات المالية من عام إلى آخر.

المعوقات السابقة تعطي مؤشرات ودلائل على ضعف الرقابة الحكومية بشكل عام، وقد تحدثت سابقا عن الأسباب التي تقف وراء تلك المعوقات التي تتمثل في المنهجية الرقابية نفسها، والتي أفرزت تلك الظواهر السلبية وأضعفت الدور الرقابي للديوان، فتلك المعوقات ما هي إلا آثار لتطبيق تلك المنهجية القديمة.

فالمنظومة الرقابية عموما تفتقر إلى تطبيق مبدأ المساءلة وإلى تطبيق المعايير المهنية، وبالتالي تكون النتائج الرقابية مجرد ملاحظات شكلية وسطحية تتعامل معها الجهات الحكومية بشكل روتيني وبيروقراطي معتاد، وعلى هذا الأساس اقترحت على ديوان المراقبة تطبيق النموذج الدولي للمراجعة الحكومية المبني على تطبيق المعايير المهنية المتعارف عليها دوليا، بحيث يكون هناك رأي مهني مستقل للديوان حول الحسابات الشهرية والحسابات الختامية للجهات الحكومية.

ففي كل نهاية سنة مالية تصدر الجهات الحكومية تقارير مالية تتمثل في الحسابات الختامية، تتضمن الإيرادات المحصلة فعليا والمبالغ التي تم صرفها من الميزانية العمومية، بالإضافة إلى القرارات الخاصة بإجراء المناقلات بين بنود الميزانية المختلفة، وهذه الحسابات لا تراجع بشكل مهني مستقل، لذا لا تهتم بعض الجهات الحكومية بإعداد تلك التقارير، ويكون التركيز فقط على تعبئة النماذج المقررة في شكلية الحسابات الختامية، إذ إن العمليات المشبوهة والهدر في الصرف دونما حاجة فعلية، لذلك تكون مسوغات صرفها مكتملة وعملياتها الحسابية سليمة، وتكون اعتمادات الصرف مكتملة الإجراءات والتواقيع!

وفي المقابل تركز المنهجية الرقابية القديمة على شكلية مستندات الصرف أو تحصيل الإيرادات مع تجاهل تقييم أنظمة الرقابة الداخلية والمخاطر على الرواتب والأجور وعلى المصروفات التشغيلية في الباب الثاني والثالث والمشاريع في الباب الرابع من الميزانية، ولهذا لا يوجد حكم مهني على الحسابات الختامية وعلى مدى التزام الجهات الحكومية بالأنظمة المحاسبية والتعليمات المالية، وبالتالي لا يستطيع ديوان المراقبة العامة الحكم على مدى مصداقية تلك التقارير ومن ثم إمكانية الاعتماد عليها.

فالأصل في الرقابة الحكومية أن تمارسها السلطة التشريعية التي أجازت للجهات التنفيذية جمع مصادر الدخل وإنفاقها في قوانين وأنظمة ولوائح وتعليمات محددة، حتى تتأكد من حسن الأداء وأمانة التنفيذ، وهذه الرقابة تتطلب التفرغ والاختصاص، لذا أناطت السلطة التشريعية هذه المهمة بديوان المراقبة العامة بحيث تخضع لرقابته جميع وزارات ومؤسسات الدولة دون استثناء بهدف حماية المال العام، والكشف عن الانحرافات ومعالجتها، وتحديد المسؤولية الإدارية والمالية، وضبط الإنفاق الحكومي وترشيده، ومعالجة الثغرات التي قد يتسرب منها الاختلاس أو التزوير أو الرشوة أو الإسراف.

ولكي يتمكن ديوان المراقبة العامة من تحقيق الأهداف المتوخاة منه في مجال حماية المال العام وتفعيل المساءلة ومكافحة الفساد ينبغي أن يضرب هو نفسه المثال والقدوة الحسنة في مجال التخطيط والتنظيم والشفافية والتقويم المستمر لأنشطته الرقابية، فضلا عن تحديد أهداف واضحة وتجنب حالات تضارب المصالح.

كما أن ديوان المراقبة لكي يؤدي دوره بفاعلية لا بد أن ينتهج في عمله خصائص العمل الرقابي المهني، والتي منها تطبيق معايير المراجعة المتعارف عليها، وأن يكون قادرا على احتواء الظروف والأحوال المتغيرة والمتجددة والتكيف معها، ومنهجية الرقابة التقليدية القديمة للأسف تفتح أبواب الفساد والهدر المالي في الجهات الحكومية، وتجعل من ممارسة الفساد ظاهرة عادية وبلاء عاما يصعب ويتعذر علاجه.

ولهذا أرى من الضروري أن تتم إعادة النظر في عملية المراجعة المستندية اللاحقة والتي ينتهجها ديوان المراقبة حاليا ليتحول إلى المراجعة المهنية الميدانية والمصادقة على الحسابات الشهرية والحسابات الختامية للجهات الحكومية، وإبداء الرأي حول سلامة الحسابات من الناحية الفنية والقانونية، بحيث يتم توفير أساس من الثقة في الإدارة الحكومية.

وبناء على ما سبق، يستطيع مجلس الشورى كرقابة برلمانية على الأداء الحكومي ومخول بالمراقبة والمساءلة واستجواب المسؤولين والوزراء، أن يستعين بديوان المراقبة العامة لمراجعة التقارير المالية والإدارية السنوية للجهات الحكومية، أو مراجعة بعض الظواهر والقضايا الوطنية، والقيام بدراسات تحليلية تتعلق بربط خطط التنمية بتلك التقارير وعمل تحليل مقارن لمؤشرات الأداء الوطنية، والتي سوف تتم متابعتها مستقبلا عن طريق مركز قياس الأداء، لتكوين رؤية واضحة وشاملة لأداء الجهات الحكومية بما يتفق مع أهداف رؤية المملكة 2030.

فمؤشرات قياس الأداء تحتاج أيضا إلى مراجعة مهنية من جهة رقابية مستقلة مثل ديوان المراقبة العامة، للتأكد من مصداقيتها وإمكانية الوثوق بها والاعتماد عليها من قبل السلطة التشريعية، فالرقابة الحكومية لا تقف عند حد المحاسبة وتحديد المسؤولية، بل تتعدى إلى تقديم المساندة والإرشاد للقائمين على التنفيذ في الجهات الحكومية، بما يكفل الارتقاء بمستوى الأداء المالي والإداري بشفافية عالية ومساءلة جادة.