بعد تعيين قيادة جديدة لمؤسسة النقد العربي السعودي الأسبوع الماضي، قد يكون من المناسب إعادة تقييم أداء المؤسسة والنظر في تطويرها في ضوء التغيرات التي تمر بها المملكة العربية السعودية والاقتصاد العالمي، خاصة فيما يتعلق بسياسة الاستثمار.

والحق أن مؤسسة النقد، وقد بلغت 65 عاما منذ إنشائها في عهد الملك عبدالعزيز في 25 رجب 1371 (20 أبريل 1952)، قامت بدور تشكر عليه في عقودها الأولى في تعزيز مكانة الريال السعودي ودعمه، ولكن المطلوب من المؤسسة كبنك مركزي للدولة أكثر من ذلك، وربما حان الأوان لتحديث آلية عملها وتعزيز قدرتها على المهام الموكلة إليها والمفترض قيامها بها.

أوكل إلى مؤسسة النقد خلال العقود الستة الماضية مهام عديدة، من أهمها القيام بأعمال مصرف الحكومة، وسك وطبع العملة الوطنية، ودعم النقد السعودي وتثبيت قيمته الداخلية والخارجية، وتقوية غطاء النقد.

وتقوم المؤسسة كذلك بإدارة احتياطيات المملكة من النقد الأجنبي، وإدارة السياسة النقدية للمملكة القائمة على الربط الكامل بالدولار الأميركي والمحافظة على أسعار الصرف واستقرار الأسعار ومكافحة التضخم. وتقوم المؤسسة أيضا بمراقبة المصارف التجارية وتجارة العملات، وشركات التأمين، وشركات التمويل، وشركات المعلومات الائتمانية.

وفي كل مهمة من هذه المهام مجال للتطوير والإصلاح، لكي تكون المؤسسة أكثر فعالية في الاقتصاد الوطني. ولا تخلو أي صحيفة من صحفنا أي يوم، أو تويتر، من شكاوى لا تُحصى عن البنوك وشركات التمويل وشركات التأمين والمعلومات الائتمانية. ولكن هذه الشركات والمصارف تدافع عن نفسها بدعوى أن ما تقوم به من إجراءات إنما يتم تنفيذاً لتعليمات مؤسسة النقد، وقد يكون الأمر كذلك وقد لا يكون. وبسبب كثرة قيودها وعشوائية تصرفاتها، أصبحت هذه الشركات والبنوك عائقاً أمام التنمية بدلاً من أن تكون مساعدة وداعمة لها.

وهذه كلها مواضيع مهمة، ولكن ما أريد الحديث عنه اليوم أكثر إلحاحاً، وهو إعادة النظر في إدارة الاحتياطي النقدي. فربما كان من المناسب، والمؤسسة تحتفي بقيادتها الجديدة، أن نُعيد التفكير في سياسة الاحتفاظ بهذا الاحتياطي الضخم على هذا النحو، والنظر في تحويله إلى أوعية استثمارية أعلى مردوداً، نظراً إلى أنه تجاوز بكثير احتياجات السياسة النقدية.

فقد تم تحويل مئات المليارات من الفوائض التي حققتها المملكة في الماضي إلى أصول احتياطية تديرها مؤسسة النقد، أغلبها على هيئة استثمارات في أوراق مالية ذات مردود متواضع. فتُظهر تقارير المؤسسة أن أكثر من 70 % من أصولها الاحتياطية استثمارات في أوراق مالية في الخارج، أما الباقي فهو بشكل رئيسي إما أوراق نقدية أو ودائع في الخارج، أو لدى صندوق النقد الدولي، مع نسبة محدودة من الذهب.

ووصلت الاحتياطيات ذروتها عام 2014، حين بلغت نحو (2.8) تريليون ريال، أو (750) مليار دولار. ومع أن احتياطيات الصين واليابان تتجاوز هذا الرقم بالقيمة المطلقة، إلا أن احتياطي المملكة هو الأعلى كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تجاوزت قيمة تلك الاحتياطيات (100 %) من الناتج المحلي الإجمالي، وهي النسبة الأعلى عالمياً، حسبما أعلم.

وحسب المتعارف عليه دولياً، فإن البنوك المركزية تستخدم الاحتياطي لدعم وتسيير السياسة النقدية في المقام الأول، أي لتحقيق استقرار العملة على المدى القصير والمتوسط، ولإدارة السيولة النقدية. ولأن الاحتياطي يُستخدم أساساً لهذه الأغراض، فإنه يتم الاحتفاظ به على شكل أوراق نقدية، أو ذهب، أو لدى صندوق النقد الدولي، أو في أوراق مالية قصيرة الأجل.

ويُلاحظ أن معظم هذه الأدوات ذات مردود متواضع، أو ليس لها أي مردود على الإطلاق، ولكنه يتم الاحتفاظ بالاحتياطي على هذا النحو بهدف تقليل المخاطر وتوفير كميات كافية لزيادة السيولة لدى الحاجة.

ولكن الأصول الاحتياطية لمؤسسة النقد تجاوزت بمراحل احتياجات السياسة النقدية. فعادة ما يُحدد الحد الأدنى للاحتياطي بما يكفي لتغطية قيمة الواردات لمدة 3 إلى 4 أشهر. وفي المملكة يعني ذلك بين (25) إلى (30) بليون دولار، في حين أن الاحتياطي الذي تحتفظ به المؤسسة يغطي قيمة واردات (70) شهراً، أو نحو 20 ضعف المستوى المطلوب!

ومما لا شك فيه أن زيادة الاحتياطي عن الحد الأدنى المطلوب توفر مستوى أعلى من الحماية والحيطة، ولكن الاحتفاظ باحتياطي قارب 3 تريليونات ريال لفترات طويلة غير مجد اقتصادياً إذا تم الاحتفاظ به في أدوات ذات مردود منخفض. ومن الواضح أن الاحتفاظ بالاحتياطي على هذا النحو الذي يتجاوز احتياجات السياسة النقدية مكلف اقتصادياً لأن الأصول التي أشرتُ إليها لا تعود بمردود يُذكر.

ولهذا فإن الإدارة الاقتصادية الحصيفة لهذا الاحتياطي قد تتطلب أن يُستثمر الجزءُ الذي يتعدّى احتياجاتِ السياسة النقدية، وهو الجزء الأعظم منه كما أسلفتُ، في أصول اقتصادية ذات مردودٍ أعلى. ويمكن أن يُعهد ذلك إلى صناديق الاستثمار الحكومية القائمة، للاستثمار داخل المملكة وخارجها، مع اتباع سياسات استثمارية تقوم على التوازن والتحوط ضد المخاطر.

وفي حالة كان الاستثمار في الاقتصاد المحلي فإن ذلك سيرفع من قيمة "المضاعف" الاستثماري، ويُنعش الاقتصاد، ويسهم في إيجاد الفرص الوظيفية للمواطنين، وهذه الآثار الاقتصادية تُضاف إلى المردود المالي للاستثمار، أو على أضعف تقديرٍ، تزيد من فرص المحافظةِ على القيمة الشرائية لتلك الاحتياطيات.