كانت الأسابيع الماضية أسابيع ملتهبة في السياسية الأمريكية: انتخابات مجلس الشيوخ، الكونغرس، حكام الولايات، قوانين محلية. كانت انتخابات لكل شيء تقريبا ما عدا كرسي الرئاسة الذي لا يزال محجوزا لباراك أوباما سنتين إضافيتين. هذه الانتخابات فرصة لمراقبة الساحة السياسية والفكرية الأمريكية وربما بناء توقعات مستقبلية ومن المعلوم أن ما يجري في أمريكا يعني كل العالم باعتبار أنها أكبر الدول في العالم تأثيرا وفعالية.

يمكن القول في البداية إن المحافظين حققوا مكاسب في الانتخابات الأخيرة، فمرشحو حزب الشاي حققوا مكاسب كبيرة محسوبة لصالح الجمهوريين. انتصار كبير في مجلس الشيوخ ومكاسب جيدة في الكونغرس رغم أن الغالبية فيه لا تزال لصالح الديموقراطيين. بالتأكيد أن هذا التغيير سيصعّب من عمل الرئيس أوباما باعتبار أن الأعضاء الجدد وضعوا في أجندتهم التصدي لما يقوم به الرئيس من توسيع لنشاطات الحكومة وتدخلها في سوق المال الذي يجب أن يبقى بعيدا عن سلطة الحكومة.

هناك محاولات متعددة لتفسير هذا التغير في الرأي الأمريكي الذي أدى إلى إعطاء دعم للمواقف المحافظة. التفسير الأول والأكثر مباشرة هو أن الناس لا يزالون غاضبين من أداء الحكومة ويعتقدون أنها لم تساعد في تخفيف أو حل الأزمة الاقتصادية التي تضرب البلد وترفع نسبة البطالة إلى أرقام لا يحتملها المجتمع الأمريكي. كانت عملية خلق فرص وظيفية هي الكرت الذي لعب به كل المرشحين في الانتخابات الأخيرة. الكل وعد المرشحين بأنه سيساعد في خلق وظائف جديدة للمواطنين الأمريكيين. الحكومة الحالية رفعت نفس الشعار ولكن يبدو أن الأرقام على الأرض لا تساعد. هناك تحسن في الحالة الاقتصادية ولكنه أبطأ من المأمول. الحكومة من جهتها تقول إنها ورثت هذه الأزمة من سابقتها الجمهورية ولولا جهودها لحلت كارثة أكبر في البلد. ولكن يبدو أن الناخبين يبحثون عن حل أو رؤية أخرى من خلال تصويتهم لمرشحين من توجهات أخرى.

في المقابل هناك تفسير ربما يقف على تحليل للحالة النفسية الاجتماعية للمجتمع الأمريكي أو أي مجتمع آخر. هذا التفسير يقوم على المقولة التالية: الناس في حالة الأزمات يميلون للمحافظة ويتخوفون من القيام بخطوات تحمل بعد مغامرة. في حالة الأزمات يميل الناس لمقولات تربطهم بجذورهم المشتركة وتشعرهم بروح الترابط التي توفر لهم شيئا من الأمان. المواطن الأمريكي قلق على وظيفته وهو قلق كبير وخطير. فالبقاء بدون عمل يحمل معه مخاطر مرعبة منها البقاء بدون تأمين صحي وتحت ضغط القروض والفواتير مما يعني احتمال خسارة السكن والسيارة وأساسيات كثيرة في الحياة. هذا الشعور بالخطر يجعل الناس يميلون إلى الأصوات المحافظة التي تركز على العودة للجذور أكثر من الخطوات التقدمية وهذا ما يفعله مرشحو حزب الشاي وجزء كبير من الجمهوريين حين يدعون الناخبين لاستعادة أمريكا "التي نعرفها" من أيدي الاشتراكيين (الليبراليين الديموقراطيين) الغرباء الذين يريدون تحويل أمريكا عن مبادئها الأساسية. قد يرد البعض بأن الثورات هي نتيجة أزمات وهي في الغالب ثورات تقدمية وغير محافظة. هذا الاعتراض وجيه ولكنه برأيي يصح على أزمات متراكمة وحادة جدا تؤدي إلى يأس الناس من قدرة النظام الحالي على تقديم أي حل. هذه الحالة لم تصل لها الساحة الأمريكية بعد، ولا أظنها ستصل في الأفق القريب باعتبار أن النظام الحالي يفتح المجال للأفراد لتحقيق تغييرات وتعديلات تعطيهم ذلك الشعور بالإحساس بالإمكانية وتبعدهم عن مشاعر اليأس التي تسيطر على الناس في المجتمعات غير الديموقراطية.

عودة لمنطق الخوف الذي يدفع الناس إلى تبني مواقف محافظة يمكن أن نفهم جزءًا مما يجري في الساحة العربية والإسلامية وهي الساحة التي يمكن أن نقول بوضوح أنها ساحة مليئة بأفكار الخوف. الأفكار التي تقول إن العالم يحيك لنا المؤامرات ويترصد بنا هي أفكار لها حضور تأسيسي في أغلب نسخ الإسلام اليوم. خصوصا النسخة العربية والإيرانية وتلك المتأثرة بهما كالنسخة الأفغانية. هذه الحالة من الخوف تجعل من الدعوات التي تنادي بالعودة للخلف والتي تحاول أن تؤسس لقطيعة عاطفية وفكرية مع الآخر المختلف حتى ولو كان هذا الآخر على درجة منخفضة من الاختلاف، تجعل منها دعوات ذات امتداد وتأثير هائل. الأزمة تبدو واضحة حين نتأمل إلى أي درجة تصل تأثيرات الأفكار المحافظة في المجتمعات. فإذا كانت الأفكار المحافظة في أمريكا تدعو إلى العودة إلى درجة أقل من تدخل الحكومة في شؤون الأفراد وتمنع الناخبين في كاليفورنيا من السماح بتدخين الماريوانا لأسباب غير طبية فإن الأفكار المحافظة في البلدان الإسلامية تصل إلى منع المرأة من العمل الشريف وتسمح لها بالشحاذة، أفكار تحرم على الفرد أن يسلم على المختلفين معه. أفكار تدعو الفرد إلى القطيعة مع العالم الحديث الذي يعيش فيه، بل أفكار تدعو الفرد لقتل نفسه وقتل الآخرين بحثا عن حلم مفقود. المشكلة تكمن في أن الأفكار المحافظة المنغلقة هي الأصل وهي صاحبة الجذور الأقوى وهي أفكار تصنف محافظة بحسب مقاييس القرون الوسطى أما حسب مقاييس الوقت المعاصر فهي أفكار خطيرة وضد حقوق الإنسان الطبيعية. أفكار لا يمكن أن تقبل وتحظى بشعبية إلا في بيئات يختفي فيها الإنسان وتحضر فيها جماعات قليلة تحتكر كل شيء. المشكلة تكمن في أن الأفكار المحافظة المنغلقة في العالم الإسلامي تقود المجتمعات إلى حالات انفجار خطرة لم يتشكل حيالها وعي نقدي حتى الآن. نسخة الصومال ودارفور وأفغانستان نماذج واضحة لما يمكن أن تصل له المجتمعات التي تسيطر عليها أفكار العنف والانغلاق. مجتمعات تصبح مساحة لتصفية الحسابات والصراعات الدولية باعتبار أنها مساحات لا قيمة للإنسان فيها. المعادلة كالتالي: أرخِص من قيمة الإنسان، اجعله لا يساوي شيئا ليتحول كل شيء إلى دمار.