لا يمكن تفسير الاستعصاء في الوضع السوري، المتمثل في عدم الحسم، أي عدم قدرة النظام على إنهاء الثورة، وعدم قدرة الثورة على إسقاط النظام، بقوة أو ضعف أي من الطرفين المتصارعين، لأن الوضع السوري بات محكوما بالمداخلات أو بمعادلات القوة المستمدّة من الخارج، أكثر مما هو محكوم بقواهما الذاتية.
واضح أن قدرة النظام على البقاء لم تعد، منذ سنوات، مستمدة من قدراته الخاصة، لا العسكرية ولا الشعبية، بقدر ما هي مستمدة من عوامل الإسناد الخارجي، المتمثلة في الدعم الإيراني والروسي، العسكري والمالي والسياسي، وأيضا من تراخي معسكر "أصدقاء سورية"، خصوصا الولايات المتحدة، في عدم حسم الموقف، وفي ضعف دعم الثورة السورية، على الأقل لجهة وضع حد للقصف الجوي، عبر فرض مناطق حظر جوي أو مناطق آمنة للسوريين.
وقد شهدنا أن المأساة السورية فاقت كل التصورات والتخيلات، فنحن إزاء حالة كارثية بكل معنى الكلمة، مع أكثر من 10 ملايين من اللاجئين المشردين داخل سورية وخارجها، من الذين فقدوا عالمهم وبيوتهم وممتلكاتهم ومصادر رزقهم، وثمة مدن دمرت معظم أحيائها، وحوالي نصف مليون من المقتولين، وعدة ألوف قضوا تحت التعذيب، وعشرات الألوف من المعتقلين، وحوالي مليون شخص في مناطق محاصرة؛ وكل ذلك بحسب إحصاءات لمنظمات دولية، علما أن الأرقام أكبر من ذلك بكثير.
من جانب آخر، نحن إزاء نظام يقتل شعبه ويدمر عمرانه بصواريخ عشوائية وبراميل متفجرة، متحللا من أية معايير، تتعلق بضبط الصراعات المسلحة، وقد فتح البلد على مصراعيه للتدخل العسكري الروسي والإيراني، مع سكوته عن "داعش" الذي يتحرك في مواكب سيارة، ويبني "دولته" المزعومة، بين باديتيْ العراق والشام، دون أن يتعرض لا لقصف البراميل السورية، ولا لقصف الطائرات الروسية التي تركز عملها على مواجهة الجماعات المسلحة المحسوبة على المعارضة في شمالي حلب ومحيط دمشق، على ما لحظنا مؤخرا.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين المجتمع الدولي مما يحصل؟ أو أين المسؤولية الدولية السياسية والأخلاقية عما يجري للشعب السوري؟ وما الذي يحدث للولايات المتحدة الأميركية؟
هكذا، فإن هذا التعامل غير المسؤول مع الكارثة السورية يثير الريبة والتساؤلات، خصوصا مع التدخل المكشوف، والفاضح لروسيا وإيران، مع ميليشياتها اللبنانية والعراقية في الشأن السوري، ومع استفحال خطر تمدد دولة "داعش".
وما يؤكد مشروعية هذه الريبة أن الحديث عن سيادة الدول لا معنى له، أو أنه يجري وفق معايير مزدوجة، إذ إن الولايات المتحدة ذاتها كانت تدخلت في حالات مماثلة في أكثر من بلد، وضمنه في ليبيا مؤخرا، كما أنها فرضت حظرا جويا على العراق وليبيا في مراحل سابقة.
على ذلك، يمكن الاستنتاج بأن كل التبريرات لترك السوريين لمعاناتهم وعذاباتهم وتشردهم هي مجرد لتغطية الحقيقة الأساسية التي تثير على ما أعتقد، شبهة ترك بلدان المشرق العربي للتفكك والخراب، الدولي والمجتمعي، على نحو ما حصل سابقا في العراق، الذي لزّمته الولايات المتحدة لإيران "بعد الغزو 2003"، مما أدى إلى تصدع وحدة شعبه، وتعثر قدرته على خلق إجماعات وطنية، وها نحن إزاء دولة فاشلة ومستنزفة ومنقسمة.
الآن أيضا، تبدو الإدارة الأميركية وكأنها تلزّم سورية لروسيا "مع إيران"، وتركهما لتدبر أمرهما فيها، متحللة من أية مسؤولية، علما أنها تعرف أن ثمة نتائج كارثية ستنجم عن ذلك بالنسبة للسوريين، وبالنسبة لمستقبل سورية.
في كل الأحوال، فإن تصرّف الولايات المتحدة هذا، سواء كان هدفه توريط روسيا وإيران في المشرق العربي، والوقوف في موقف المتفرج، كونها هي المستفيدة مهما كانت مآلات الأوضاع، أو كان هدفها من وراء ذلك خلق بيئة آمنة لإسرائيل، على المدى البعيد، فإنها تتحمل في لا مبالاتها، مسؤولية أساسية عن الكارثة الحاصلة للسوريين، كما عن الكارثة المتحققة للعراقيين، وفي عموم المشرق العربي، من العراق إلى لبنان مرورا بسورية.
كما أنه من الصعب تبرئة إسرائيل من كل ما يحصل في المشرق العربي، فهي أكثر المستفيدين من هذا الموقف الأميركي، ومن أكثر المستثمرين في الصدع الحاصل في مجتمعات ودول المنطقة، سيما أنها باتت بمثابة الدولة الأكثر ثباتا واستقرارا واطمئنانا فيها، بعد أن أضحت تعيش في محيط آمن ورخو وضعيف من كل النواحي، ومن دون أية تهديدات آنية أو محتملة، ربما لعقود.
وقد لا نجازف هنا في القول، إن هذه هي القطبة المخفية، ربما، التي لا يريد أحد الكشف عنها صراحة في القضية السورية وفي المواقف الأميركية والروسية، فلو كانت الخارطة السورية في مكان آخر، أو لو لم تكن إسرائيل، لاختلف الأمر تماما، على الأرجح.