من الجميل أن يعيش المرء مدة زمنية، وإن قصرت، بين دفني كتاب.. وحين يكون الكتاب للدكتور سعد البازعي، فالقراءة ترتقي أكثر لتصل إلى أبعاد أكثر ذهنية ومتعة وعمقاً.

يرى البازعي في مقدمة كتابه "قلق المعرفة" أن صور القلق التي تمثلت أمامه في دراسات أو مقالات، وجدها ناظماً لمحتوى الكتاب، فانطلق ليجعل من صورة القلق قضية مركزية للهموم والتطلعات، متوقفا أمامها في تركيبة العلاقات الثقافية، فـتبدو له ناتجة عن الاختلاف أو الأسئلة المحيرة التي لا تتوقف المعرفة عن طرحها والتنامي من خلالها أمام المبدعين.

قلق المعرفة لدى البازعي يبدأ بقلق الأطر، ومن التساؤل الشهير: جمهور الثقافة أم ثقافة الجمهور؟ ينطلق إلى الأبعاد الدلالية للمفردات، واستخدامها أحيانا في الخطابات المؤدلجة، مناقشا سعي لنخب لإقامة قاعدة اتصال مع المتلقين، حتى لو اضطر بعضهم إلى إقناع ذاته باستيعاب الثقافة الشعبية. وضمن قلق الأطر تندرج إشكاليات أخرى كثيرة..

وإذ يطرح حالة "قلق المفكر" الجدلية، فإن البازعي يقاربها بثلاث مقالات عن المفكر الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيري، ثم يمضي إلى "قلق الحوار" من خلال مقالين عن المفكر الراحل الدكتور محمد عابد الجابري.. وفي الحالتين تغيب الشخصنة بين العنوان العريض المطروح وعناوين المقالات التي تصبح فرعا يندرج تحت رؤية "القلق" التي ارتأى الكاتب أن المفكرين يمثلان أنموذجين معبرين فيها عن هاجس "المفكر" وصخب "الحوار". فيما شكّل المفكر الفلسطسني الراحل إدوارد سعيد لديه حالة قلق الانتماء.. ليتحاور مع إشكالية الانتماء الغربي للمثقف العربي، ومع الموروث العربي الإسلامي.

قلق المعاصرة لدى البازعي يدخل في الكتابة واللغة والشارع.. ويدخل أيضا في المنجز العلمي والمعرفي الذي وضع العلوم الإنسانية في مأزق بحيث أحسّ دارسوها أنهم عبءٌ على المجتمع الذي يرى نهضته بالعلم والتكنولوجيا. أما قلق التنوير فهو استفهام عن مآلات عدة نوافذ.

ينتهي كتاب البازعي بقلق اليهود، ثم قلق التأليف والكتابة ممثلا له بقلق الكتابة عن اليهود. وهذا القلق عاشه الكاتب عبر إصداره الجريء (المكون اليهودي في الحضارة الغربية) وترقبه لردود أفعال من لا تعجبهم الكتابة عن اليهود، حتى وإن كانت تاريخية موضوعية.

في "قلق المعرفة" يظهر البازعي قدراته على الاستنباط وربط الحالات ومقاربتها بأسلوب يمتلك فيه لغة الإقناع، عبر عناوين عريضة للقلق تحتضن ما تحتها من هواجس.