تظل شخصية خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - يرحمه الله - خامس ملوك هذه الدولة، شخصية عظيمة لن ينسى التاريخ إسهاماتها الكبيرة. على مدى ربع قرن من الزمن على وجه التقريب، يمكن القول إن الملك فهد أرسى قواعد مهمة تركت لنا جميعاً إرثاً كبيراً، حيث تميز الملك فهد بذكائه العميق وخاصة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، والعالم يسجل العديد من المنجزات التي يذكرها التاريخ حتى الآن، ثمة أمر لربما يكون الجيل الجديد عاجزاً عن فهمه أو حتى إدراكه، ويتوجب عليّ أن أكتب فيه لإيماني الشديد بالمسؤولية الملقاة على عاتق كل من حكم هذا الوطن الجميل، المملكة العربية السعودية.

الجميع يعرف مكانة أرامكو السعودية، لكن القليل من قرأ تاريخها ونشأتها وكيف تحولت إلى شركة نفطية سعودية كاملة وذلك في عام 1980، حينما استطاعت الحكومة السعودية الحصول على حصة 100% من أرامكو الأميركية، ومن ثم تمت لها السيطرة الكاملة على الشركة في عام 1988، وتم تعديل اسم شركة أرامكو الأميركية بمرسوم ملكي إلى شركة الزيت العربية السعودية أو أرامكو السعودية، والذي ترتب عليه إدارة العمليات والسيطرة على النفط والغاز السعودي، وأصبحت أرامكو السعودية شركة مملوكة بالكامل للحكومة السعودية.

كانت رؤية الملك فهد مذهلة لما هو قادم من خلال هذه الشركة، والتي أصبحت خلال تاريخها الممتد لـ80 عامًا، شركة عالمية رائدة في مجال التنقيب عن المواد الهيدروكربونية، وإنتاجها وتكريرها وتوزيعها وشحنها وتسويقها، فضلاً عن كونها أكبر مصدر للنفط الخام وسوائل الغاز الطبيعي في العالم.

والجميع يعلم أن أرامكو السعودية تتمتع بأضخم بنية تحتية للنفط والغاز في الصناعة، من حيث حجم الإنتاج وموثوقية التشغيل والتقدم التقني. فمعامل الشركة وموظفوها القائمون على تشغيل تلك المعامل، يجعلان منها المنتج الأول للزيت الخام في العالم، حيث تنتج برميلاً واحداً تقريباً من كل 8 براميل ينتجها العالم من الزيت. رؤية الملك فهد يرحمه الله، أنه قرر ألا يتم الاستغناء عن الكثير من الموظفين الأجانب، الذين يملكون الخبرة الكافية والعمل بروح الفريق الواحد، وذلك من أجل نقل الخبرة للجيل الجديد من السعوديين، وهذه رؤية جديرة بأن يتباهى بها السعوديون، لأنها حققت توازنا افتقدته بعض الشركات النفطية في دول الخليج، وليبيا والجزائر، حينما تم تأميم شركاتها النفطية، وقامت على الفور بتسريح الموظفين الأجانب، وبعدها لم يعد العمل كما كان يفترض أن يكون عليه، الرقص على مشاعر المواطنة لا يمكن أن يتم العمل عليه، على الأخص فيما يتعلق بأهم مصدر للوطن ألا وهو النفط أو الذهب الأسود.

أسترجع دائماً رؤية الملك فهد فيما قام به تجاه أرامكو السعودية، وأجد أن رؤيته جديرة بإقامة دراسات اقتصادية لفهم الأهداف التي نظر إليها يرحمه الله، فهمه الخاص لأهمية أن يكون هناك ناقل للمعرفة والتجربة المهنية للموظفين السعوديين، كان من أهم أولوياته، على الأخص أنه كانت هناك أعداد كبيرة من السعوديين الذين تم ابتعاثهم من قبل الشركة لإكمال دراستهم في مختلف التخصصات العملية، وانتظار عودتهم بعد مرورهم بتجارب حتى في العمل لدى الشركات الأجنبية، ليكونوا فاعلين ومنتجين جنباً إلى جنب مع بقية زملائهم، والجميع يدرك كيف استطاع الأجانب العمل بإخلاص وتفان، من أجل تحقيق سيرة مدهشة لكي تبقى الشركة الأهم في العالم، وتحصد بطولات في إنتاجيتها المتسارعة والذكية في ذات الوقت.

ما دفعني لاستحضار تاريخ الملك الراحل، ما اطلعت عليه في الصفحة الأخيرة لصحيفة "الوطن" يوم الثلاثاء الماضي، وهو عبارة عن رسم كاريكاتوري قدمه الفنان المبدع خالد الغامدي، حينما قام برسم عدد من السعوديات وهن ينتظرن التوظيف في أرامكو السعودية، بينما يقع الاختيار على امرأة أجنبية، وهذا الأمر غير صحيح، فالفنان حمل وجهة نظره إلى القارئ وسار به إلى حال من الإثارة وبعض الارتباك والتشوش، فالشركة يعمل تحت قبتها أكثر من 70 جنسية من حول العالم، وهذا استثمار آخر في رؤية الشركة لتحقيق التوازن في العمل، والاستفادة بقدر المستطاع من الأيدي العاملة الماهرة، إلى جانب ذلك، فأنا أؤكد على أن الشركة تحتضن أعدادا كبيرة لا يستهان بها من الموظفات السعوديات، حتى إن الأمر قد أثار ضغينة بعض الشباب الذين يعتقدون أن المرأة في الشركة باتت تنافسهم في مجال التوطين، لذا، فإنني لا أوافق خالد الغامدي في فكرة الكاريكاتير، لأنني واثقة أنه يمكن لك أن ترى الحقيقة حينما تحين لك الفرصة لتطلع على إدارات هذه الشركة العريقة وإلى العاملين فيها، فالمرأة بدأت تأخذ مكانتها الطبيعية، والذي يبدو خافياً على الكثير من السعوديين، أن هؤلاء الموظفات يقع على عاتق الكثيرات منهن فتح بيوت لأسرهن، وأن هذا الراتب الذي تتسلمه الموظفة النشطة في الأغلب لا تقوم بصرفه بشراء حقائب ذات ماركات عالمية أو العناية بتدليل بشرتها، بل إن الكثير منهن يسهمن في دعم أسرهن وأطفالهن، والكثيرات منهن حصلن على القروض الخاصة بتملك البيوت، واستطعن تأمين حياة كريمة لأسرهن وامتلاك منزل، وكل هذا بفضل دعم الشركة لجميع الموظفين والموظفات، والفكرة التي لم ترق لي أن يظن البعض أن الشركة لا توظف السعوديين، بل على العكس تماماً، وعلى الأخص مركز الملك عبدالعزيز الثقافي في الظهران، والذي من المفترض أن يكون منارة جديدة للثقافة، بنظرة بسيطة ستكتشف أن معظم الموظفين هم - أو هن- من خريجي البعثات الدراسية الخارجية، وأغلبية الموظفين حاصلون على شهادة الماجستير، فالمركز قبل أن يفتتح حتى الآن، فتح ذراعيه ليضم بين أروقته أفضل المبتعثين والمبتعثات، للاستفادة من طموحاتهن وخبراتهن، ويكرس الجميع طاقته الإبداعية في العمل للأفكار المجتمعية التي يقدمها المركز، منها على سبيل المثال مسابقة اقرأ، وغيرها الكثير من البرامج.

لقد أوجعني خالد الغامدي بنظرته التي أجزم أنها لم تكن في محلها.