اختار هذا المحسن أن يبني مسجدا في قرية فقيرة معدمة على خارطة هذا العالم الإسلامي واجتهد كثيرا في الاختيار، وأسأل الله أنه أصاب وهو يروي لي تفاصيل رحلته مساء ما قبل البارحة. قرية تعيش في عصر أعمق وأبعد من العصور الوسطى، بلا ماء أو كهرباء وحتى بلا فصل مدرسي، قرية بلا دورة مياه واحدة، قرية يعيش أهلها في البراري الجافة على وجبة يومية واحدة من "الباميا" المجففة، وقد يسألني أحدكم: لماذا أسهبت في وصف تفاصيل القرية؟
الجواب يختصره حفل افتتاح المسجد، هؤلاء الذين يعيشون أبشع تفاصيل الخوف والجوع والعراء والفقر يختلفون حد الاشتباك الجسدي: لمن تعود إليه ملكية وحق المسجد؟ وبالطبع فكلهم من الطيف السني الواسع، وهنا لا نتحدث عن سؤال المذهبية بقدر ما نتحدث عن الملل والنحل التي تتنازع حتى مجرد قرية شاردة يفترض أن يكون حق "النفس" في الحياة أهم من اختلاف على ملة أو نحلة بحسب مقاصد هذه الشريعة السمحة. كان صاحبي يتحدث عن تفاصيل ذلك النزاع لمشايخ الطرائق والعقائد في تلك القرية بتفاصيل حياتها البدائية المخيفة، وكنت أستمع منه لكل جملة ثم أعيد تركيبها على واقع الخريطة الكبرى لهذا العالم الإسلامي، فهذه القرية ببدائيتها ليست سوى "أنموذج" مثالي يصلح للتطبيق على واقع كل هذه الخريطة. حتى مكان الصلاة أصبح موضع خلاف حد الاشتباك. أعادني صاحبي إلى هذا العبث المخيف من ذاكرتي مع القصص التالية: في أول مدينة أميركية أبتعث إليها تم افتتاح أول مسجد بتبرعات عشرات المحسنين من المسلمين من كل مكان. كنت ألاحظ قبل الافتتاح تلك الحشود التي تصطف من أجل انتخابات هيئة إدارة المسجد ومن سيكسب قبل أن أعرف في وقت لاحق أنه صراع الإخوان مع السلفية وعلى ماذا؟ على محراب للصلاة ولا شيء غيره. وفي القصة التالية، أتذكر أنهم دعوني من "بولدر" كي أصوت في "دنز" المجاورة لصالح فصيل ومذهب كي لا يقفز فصيل ومذهب آخر إلى سدة إدارة مسجد ثانوي في ضاحية "إنجلوود" بتلك المدينة. عدت من بعثتي الطويلة وأنا متأكد تماما أن نصف مساجد مدن الغرب لا تعود لركن "الصلاة" بقدر ما تعود لملكية المذاهب والطرائق والملل والنحل. أتذكر ذات مرة أنني صليت الجمعة في شيكاجو ثم فوجئت بزميلي يقول لي إنني صليت في مسجد للصوفية الجيلانية، فأجبته: وهل أنا صليت لله أم للجيلاني. يؤسفني أن أختم بالقول إنه حتى في مصر وباكستان بدأت ظاهرة تقسيم بيوت الله على الطرائق والملل، ولكن المؤسف المخيف أن تصل هذه الأمراض إلى أفقر قرية مسلمة على وجه الأرض، ونحن لم نصل إليها بالماء والغذاء والدواء: وصلنا إليهم عبر أسهل ما يكون، وهو اللسان والترهيب وثرثرة الكلام.