الانغلاق على الذات موقف وجودي يمكن ملاحظته وتأمله من أكثر من جهة. الأسبوع الماضي تحدثنا عن صورة من صور الانغلاق على الذات التي يمارسها عادة أفراد "الطبقة المتعلمة". هذا الانغلاق يظهر من خلال تصوراتهم عن سعادة وتعاسة "طبقة العامة" في إطار معاييرهم الذاتية. الصورة النمطية للانغلاق على الذات تتمثل في تصور الآخر والحكم عليه انطلاقا من تصورات ومعايير الذات فقط. بهذا يكون "العامي" يسبح في نعيم الجهل، لأنه فقط لا يعرف ما يعرفه المثقف ولا يشقى الشقاء الذي يعرفه ويعترف به المثقف والمتعلم. في المقابل الانفتاح على الآخر يعني أن يكون تصورنا لسعادة الآخر انفتاحا على الآخر وعن تصوره هو للسعادة والتعاسة. الانفتاح هنا رحلة للآخر لا لقولبته وتعليبه في تصورات ذاتية، بل لفتح تجربة الوجود معه وله. العلامة الأخرى للانغلاق التي سأحاول التركيز عليها هنا هي انقطاع التواصل بين الذات والآخر. أعني بهذا الانقطاع فشل الذات والآخر في الانفتاح المتبادل. أي فشل أطراف التواصل في الحضور المشترك دون طغيان أحدهما على الآخر.
لا أعرف تعبيرا أكثر دلالة على هذا الانقطاع بين "طبقة المتعلمين" و"طبقة العامة" من هذا التعبير المتداول بكثرة في التراث: يحكى أنه قيل لأبي تمام "لماذا لا تقول ما يُفهم؟ فقال ولماذا لا تفهمون ما يقال". هنا نلاحظ كيف يرمي كل طرف مهمة الوصول للآخر على غيره. المستمع يناشد أبا تمام لتغيير خطابه ليكون مفهوما للناس فيما يرى أبو تمام أن هذه المهمة منوطة بالناس وليست مهمته. هنا كل طرف يقول: سأبقى في مكاني وعليكم الوصول لي. صورة أكثر حدة لذات الموقف نجدها في قول الشاعر: علي نحت المعاني من معادنها.. وما عليّ إذا لم تفهم البقر.
التعبيرات السابقة تشير إلى مشكلة في التواصل. هذه المشكلة ناتجة، كما سأحاول الإيضاح في هذه المقالة، عن حزمة من التصورات المعقدة عن الذات والآخر. لإيضاح ذلك سأتحدث عن تجربة شخصية كمثال لمثل هذه الحالات. قبل سفري للدراسة في الولايات المتحدة صيف 2009 كنت أشارك في نشاطات ثقافية متعددة في السعودية وفي عدد من القنوات الفضائية. في أحيان كثيرة كانت تصلني هذه الملاحظة: لماذا لا تبسّط وتوضح الأفكار فكثير من المتابعين لا يفهمون أطروحاتك. ردة فعلي التقليدية كانت إعادة المسؤولية على المتابع. كنت أقول القضايا التي أتحدث فيها معقدة بطبيعتها والقارئ يجب أن يبذل جهدا كبيرا لتصبح الصورة واضحة أمامه. كنت واثقا لدرجة كبيرة من أدواتي اللغوية، والجماعة التي كانت في بالي أثناء الكتابة والحديث هي جماعة الثقافة. في أميركا بدأت تجربتي الفكرية باللغة الإنجليزية كمتعلم جديد لهذه اللغة كانت ثقتي في أدواتي اللغوية محدودة. عندما تحدث صعوبات في التواصل مع الآخرين كنت أضع اللوم أو الجزء الأكبر منه على نفسي. بالتالي كنت أحاول تطوير مهاراتي في التواصل مع الآخرين قدر الإمكان. جزء أساسي من هذه المهارات هو محاولة إيضاح الأفكار من خلال دقة التعبير وتوفير السياق المناسب وضرب الأمثلة. لأول مرة تعلمت إجراءات مراجعات الكتابة والصياغة والمحاولات المتكررة للوصول لأوضح صيغة مناسبة. كل هذه الإجراءات كان لها هدف واحد: توفير أفضل الفرص لتواصل الذات مع الآخر. اعتقادي بأن اللوم ليس بالضرورة على الآخرين وإشراك ذاتي في مسؤولية إشكال التواصل سهّل من هذه المهمة. في المقابل لا يبدو أن أبا تمام أو محدثكم قبل البعثة كانا على استعداد للثقة في الآخرين والشك قليلا في الذات.
من هذه التجربة الشخصية يمكنني القول إن جزءا كبيرا من إشكال التواصل مع الآخر هو التصورات المسبقة عن الذات والآخر. الثقة المفرطة في الذات والشك العميق في قدرات الآخر هما جوهر التواصل المعطوب. هذا العطب في التواصل يصبح عميقا جدا إذا كان السياق الثقافي والمعرفي يقلل من قيمة "العامة" ويعاملهم بمثابة القطيع الذي لا يستجيب إلا لعقلية الراعي. تصور الناس باعتبارهم "غاغة" أو "السطحيين" و"السذج" يقف عائق أمام التواصل مع هؤلاء الناس. على المستوى الذهني هذه الأوصاف تقف عائقا أمام إمكانية تواجد الآخر كشريك فكري مع الذات، كطرف في الحوار، وعامل أساسي في فهم وحل المشاكل. على المستوى الأخلاقي هذه التصورات عن الآخر تخلق علاقة تحد من الحضور الأخلاقي للآخر كطرف قادر على تصور الخير وتحمل المسؤوليات الأخلاقية. هنا نلاحظ سبب اندفاع كثير من "المتعلمين" للعب دور المنقذ والمخلّص. هذا الإنقاذ والخلاص غالبا ما يبرر العنف ضد الآخر الذي لا يعرف مصلحته ولا يستطيع تحمل مسؤولياته بنفسه.
في أفق هذه التصورات عن الآخر ليست هناك حاجة للانفتاح على الآخر باعتبار أن أهلية مشاركته قد تم القضاء عليها. الباقي هنا هو الانغلاق على الذات والاكتفاء بتصورها عن الآخر. الآخر خارج تصورات الذات عنه، خارج القوالب التي وضعناه فيها من اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. لا مكان هنا للجديد والمختلف والمفاجئ عن ومن الآخر. أو بتعبير آخر لا مكان للآخر الحر في هذه التصورات.