من المصادفات الجميلة، أن يتم إعلان القرارات الملكية الأخيرة يوم السبت الماضي، والتي أتت متوافقة مع إعلان المملكة لرؤيتها المستقبلية 2030 وأنا في مدينة دبي، تلك الدانة المتوهجة على صدر الخليج والمتصدرة في تقدمها المستمر لمدن العالم بجدارة، وفي عدد السعوديين المتوافدين عليها بأعداد كبيرة لأسباب العمل أو الترفيه.

كان الأمر الأبرز في حزمة التغييرات وإعادة الهيكلة في الوزارات، والتي أعلن عنها من تعديل لمسميات ودمج وإلغاء ونقل مهام لبعض الوزارات، وتعيين وإعفاء عدد من الوزراء، هو الإعلان عن إنشاء هيئة عامة للترفيه، وهو ما استقبله المجتمع بشكل متفاوت بين التحفظ التام على مسمى "هيئة الترفيه" وبين السخرية السمجة، والكثير ما زال محتارا حول السؤال عن ماهية الترفيه المقصود، والذي ستسخر له جهود حكومية كاملة.

حضور دبي هنا كأنموذج دائما ما نعود إليه له ما يبرره من تقارب في العادات والتقاليد والظروف المناخية ووحدة في الدين واللغة والجوار، إضافة إلى أنها أصبحت وجهة أولى للسياحة لدى كثير من الأسر الخليجية التي تبحث عما ترفه به عن أفرادها بخيارات متعددة ومتنوعة تناسب مختلف الميول والأذواق.

بالعودة إلى هرم ماسلو الشهير للاحتياجات الإنسانية، والذي يبدأ بالأمور الغريزية الطبيعية التي يحتاج إليها البشر ثم الاحتياج إلى الأمان في مختلف النواحي، تقع الاحتياجات الاجتماعية ضمن السلسلة الثالثة في الهرم، والتي من بينها لو صحت لنا التسمية "الحاجة للترفيه".

ولكن التساؤل ما زال قائما حول فكرة الترفيه المقصودة، خاصة أنها اُبتذلت في خيالات الكثير بأنها مراقص وبارات وقمار! أو سُطّحت حد التفاهة كما اعتدنا عليها في فعاليات السياحة والمهرجانات المرافقة لها، والتي تكاد تنحصر في مسارح هزلية سخيفة تعتمد على الإسفاف الحركي والصوتي الذي أفسد الذوق العام، وعلى الأناشيد وفعاليات التسوق الرديئة، مع ما يصاحبها من مشاهد مكرورة في التجمهر والتسطيح والتضييق. كل هذا في أوقات محددة من السنة، وأماكن محددة من الوطن مع بنية تحتية ذات تصنيف منخفض في جودتها من فنادق وشقق سكنية ووسائل مواصلات، تستنزف ميزانيات الأسر دون متعة حقيقية، وُجد لها بديل جيد ومريح في دول مجاورة ينفق فيها المبالغ نفسها مع جودة أعلى وخيارات أكثر.

إن القرار بمثل إنشاء هذه الهيئة في هذا الوقت لا ينحصر بالطبع في حقيقة احتياج المواطنين للترفيه الذي يخرجنا من الوضع الخانق الذي عشنا فيه سنين بسبب سيطرة أيديولوجيات معينة على مفاصل الحياة، والتي نعيش معها الآن مخاضا عسيرا، بل إنه يتجاوزه إلى أن صناعة الترفيه التي تعد رافدا اقتصاديا مهما نحتاج إليه في الوقت الحاضر، وهو ما ركزت عليه رؤية السعودية 2030 في تنويع مصادر الدخل في البلد. تنويع مجالات الترفيه وصناعة السياحة بالمعايير العالمية، يستدعي استقطاب مستثمرين أجانب محترفين في هذا الجانب. ومشاريع الترفيه تحتاج كغيرها من المشاريع إلى طواقم بشرية عاملة ومدربة، وهذا ما سيسهم في خلق فرص عمل جديدة للشباب من الجنسين، ويغير النظرة القديمة للعمل الذي يكاد ينحصر في مجالات ضيقة.

المستثمر الأجنبي لن يغامر بوضع أمواله وجهده في أماكن لا يضمن فيها الربح والاستمرار، ولن يقيم مشاريع سكنية أو ترفيهية لا تستغل طيلة العام، أو دون مساحات كافية من الحرية والقوانين التي تحمي استثماراته، وتضمن له وللعميل السلامة.

التنوع الجغرافي والمناخي في السعودية، يعطي مساحة واسعة من إمكانية التنويع في الأفكار الاقتصادية الداعمة للترفيه، فلدينا شواطئ طويلة وجبال شاهقة وصحار شاسعة جاذبة للسائح الأجنبي قبل المواطن، ويمكن معها التنويع في فعاليات الترفيه الرياضية والاستجمام ومغامرات التسلق والاكتشاف وسباقات السفاري. إضافة إلى إمكانية ابتكار سياحة دينية وتراثية في مواسم الحج والعمرة، تشمل زيارة الحرمين الشريفين، ثم جولة في المناطق التي توجد فيها آثار دينية وتاريخية مختلفة، تنظمها شركات متخصصة في هذا الجانب.

مفهوم الترفيه لا ينحصر في رحلات شواء، وكشتات عائلية في أنحاء من "البر"، بل إنه مشروع حضاري ثقافي واجتماعي مهم مع أهميته الاقتصادية. الجفاف الذي عاشته الأجيال الحالية منذ أكثر من ثلاثين عاما، ببعدها عن الفنون وحرمانها منها، أثّر في تركيبة الأنفس وطريقة تعاطيها مع الحياة وإقبالها عليها، فصارت جامدة بائسة وسطحية إلى حد كبير. الترفيه بالفنون من أهم الجوانب التي ينبغي أن تتبناها هذه الهيئة الوليدة، الفنون السمعية والبصرية التي تعتمد على المسارح بفعالياتها التمثيلية والغنائية، وعلى السينما وصناعة الأفلام، وعلى المتاحف وقاعات الرسم والنحت. ولا يخفى كم سيكون للفنون من تأثير إيجابي على المجتمع وعلى رفع ذائقته وإحساسه بالأشياء، وعلى تهذيب سلوكه حينما يدخل في فلسفتها وعوالمها الجاذبة، إضافة إلى تعديل نظرته إلى المجتمع وتحسين علاقاته الأسرية والنفسية.

هيئة الترفيه التي نسابقها بتوقعاتنا وأمنياتنا وفضولنا، ستكون بلا شك من أكبر التحولات الوطنية التي ستحدث، لو كانت في عمق يتناسب مع فكرة "الترفيه"، وتنويع يشمل كل الاختلافات البشرية، ويحقق كل الرغبات والتنوع الذي نهرب له خارج الوطن. تحول ترفيهي سيساعدنا للتصالح مع أنفسنا دون الحاجة إلى ازدواجية وتقية يمارسها البعض بين الداخل والخارج إذا ما سلمنا من حزب الحروب النفسية التي تسخر من هذه الفكرة بإسفاف، أو تحذر منها وتصورها بابا للتغريب والإفساد، أو يقتلها القائمون عليها بحصرها في فعاليات هزيلة ومشاريع تفتقد الرؤية ومعايير الجودة العالمية والقوانين الصارمة والواضحة، والغرامات المطبقة في حق أي اعتراض وإتلاف.

مجتمعنا يحتاج إلى الترفيه والخلاص من الخضوع لأيديولوجيا تخنق الدول وتقتلها وتسلبها قيمتها الإنسانية والمدنية، وتستفيد من التجارب الدولية في البناء البشري والسياسي والاقتصادي والترفيهي المتزن، لتخلق على الأقل حياة مدنية متحضرة. ونختم بما قاله الرسام والنحات الإسباني بابلو بيكاسو عن الفن بأنه "يمسح عن الروح غبار الحياة اليومية".