الدكتور مأمون فندي مدير برنامج الشرق الأوسط وأمن الخليج في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في لندن وأستاذ العلوم السياسية السابق في جامعة جورج تاون في الولايات المتحدة نشر قبل 15 عاما مقالا في صحيفة الشرق الأوسط تحت عنوان صديقي النجدي، ثم حلا له قبل أيام أن يعيد نشر هذا المقال عبر صفحته في موقع التواصل الاجتماعي [تويتر] ومحصلة المقال: أن هذا الصديق غيّر نظرة كاتب المقال السلبية لأهل نجد التي هي كما يقول نظرة كل أهل الوديان لهم، ويعني بالوديان أنهار مصر والشام والعراق، ولن أقف كثيرا عند اختياره نسبة هذا الصديق إلى نجد دون نسبته إلى وطنه السعودية، مع أننا نعلم جميعا أن هذه النظرة التي أشار إليها الكاتب غير مقتصرة على أهل نجد، بل هي نظرة قاصرة يعممها كثيرون منهم على أهل الجزيرة العربية بكل دولها وليس على الإقليم السعودي وحسب.
لن أقف عند هذه كما قلت وسأنتقل إلى الصفات التي يملكها هذا الصديق، والتي استطاعت أن تغير الصورة النمطية عند هذا الكاتب السياسي عن أهل نجد، بل استطاعت أن تبعث لديه الأمل في جيل عربي جديد، يقول: "حواراتي مع صديقي النجدي جسدت بارقة أمل في ظل جو ضبابي يسود الثقافة السياسية العربية، لذلك قررت أن أرسم صورة قلمية له، وللأفكار التي جسدها كإطلالة مشرقة في جو معتم، "فالأجواء العربية معتمة، وأفكار هذا الصديق هي النور الذي سيبدد تلك العتمة".
وهذه النقطة هي سر أهمية المقال، وهي كذلك سر أهمية تعقيبي عليه، فنحن حقا في حاجة لمعرفة الأفكار التي ستنقذنا من العتمة، وبودنا أن نعرف أيضا: لماذا لم يتحقق حتى اليوم شيء من أمل الكاتب، ولا سيما لقائه مع صديقه كان منذ عقد ونصف العقد من الزمان.
خلاصة الصورة القلمية التي رسمها الكاتب لصديقه ولأفكاره، هي التالي: -1 أول ما أراد أن يراه في واشنطن هو المتحف الوطني للفنون. -2 ترك لوحات عصر النهضة ليرى خصيصا لوحات فان دايك التي توحي بعدم الجمود، إذ إن هذا المثقف الفذ ينتقد في الثقافة العربية الجمود والمظهر الرسمي المتحجر. -3 يحمل حسرة على دور الفن في الثقافة العربية. -4 يتكلم الإنجليزية وكأنه إنجليزي مهذب بُنِّي اللون. -5 يبدو عليه الحزن وأكتافه مترهلة لما يتذكره من حالة العجز والوحدة المفروضة على المرأة العربية. -6 يتكلم الفرنسية بطلاقة مذهلة.
وأنا كمعظم قراء مقال الدكتور مأمون فندي لا نعرف من يكون هذا الصديق، وبالتالي أرى أنه قد يكون حقا شخصية فذة ورائدة، لكن المؤسف أن الصفات التي نقلها عنه الكاتب واعتبرها رسمة قلمية لصورته لا ترقى أبدا لأن تعطينا انطباعا عن شخصية استثنائية تعبر عن بارقة أمل للأمة العربية.
فالكاتب يصف لنا شخصية حداثية مهزومة أمام الثقافة الغربية وُجد مثلها كثير في العالم العربي، وقد امتلأت بهم مصر منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، من أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد وجدي ولطفي السيد ومحمد مندور وزكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي، وغيرهم كثير جدا ازدحمت بهم القاهرة وبغداد ودمشق وبيروت منذ أواخر القرن التاسع عشر، كما قلت سابقا حتى يومنا هذا. مثقفون يقرأون اللوحات العالمية ويتقنون عدة لغات أوروبية وينعون حال المرأة العربية ولا يختلفون أبدا في شيء عن صديق الكاتب.
فماذا قدم هؤلاء لبلادهم غير مؤلفات ومقالات في الفكر والتاريخ والفلسفة والفن بعضها مفيد وبعضها غير مفيد، لكنهم فشلوا في صناعة جيل عربي مشرق، كما فشلوا فشلا ذريعا في صناعة واقع عربي مشرِّف اجتماعيا وأخلاقيا وسياسيا.
بل شهدت مجتمعاتهم أقسى تطورات الحكم الاستبدادي، وكثير منهم وقف مصفقا لذلك التقهقر نحو الاستبداد، كما شهدت مجتمعاتهم أسوأ أشكال العبث بواقع المرأة ومستقبلها وأخلاقها وحقوقها، وكلهم تقريبا صفق لهذا العبث بالنساء باسم التقدم والتحرير، وها هي المرأة حتى اليوم في بلادهم تعاني الأمرين جراء شعارات تحرير المرأة ومشاريع ترجيلها.
كما شهدت مجتمعاتهم تدهورا اقتصاديا عبر مشاريع اقتصادية قام هؤلاء بنقلها كما هي في بلاد الغرب دون تكييف لها بما يجعلها ملائمة للتاريخ والواقع والمستقبل العربي، بل إن الأجيال المتأخرة من هؤلاء النخب الحداثيين باعوا أوطانهم في أحلك أوقات حاجتها إليهم وتفرقت الكفاءات منهم لتعمل في أميركا وأوروبا، ويكتفون بزعم كونهم يشرفون بلادهم حين يقال عنهم: الباحث السياسي أو الاقتصادي أو القانوني الأميركي من أصل مصري أو سوري أو عراقي. نعم: كل الأوصاف التي مدح الكاتب بها صديقه موجودة في بلاد الوديان العربية منذ 140 عاما حتى الآن، ولم تقدم لبلادها سوى مزيد من التأخر نشهده اليوم بكل تفاصيله.
على العكس تماما من أهل نجد الذين لم يتباكوا على حال المرأة العربية، ولم ينعوا على الأمة عدم تأثير الفن في ثقافتها ولم يتقنوا الإنجليزية والفرنسية كأهلها ليكونوا إنجليزا أو فرنسيين بلون بني.
أهل نجد هؤلاء بنوا في الصحراء المتنازعة دولة وُصفت عالميا بأنها مُعجزة فوق الرمال، وحققوا وحدة عربية في أجزاء هذه الجزيرة في ظروف صعبة كان الاستعمار الإنجليزي والفرنسي وقتها جاثما على بلاد أولئك الحداثيين من أهل بلاد الوديان الذين قاوموا هذا الاستعمار بتقديس لغته وفنه في عصر النهضة وما بعد عصر النهضة، وتفاخروا في قدراتهم على قراءة تلك الصور، ونظروا جراء ذلك نظرة سلبية إلى أهل الجزيرة شاركهم الكاتب والخبير والأكاديمي مأمون فندي بها حتى قيض الله له ذلك الصديق الفلتة الذي بلغ من حصافته أن استطاع قراءة رسمة الفنان الأميركي اندو وايت لفتاة تلبس ثوبا ورديا يخالف لون بقية أجزاء الصورة.
ما أعظم عبقرية هذا الصديق الذي استطاع أن يثبت للسياسي المصروأميركي أو الأميركومصري مأمون فندي أن نجدا والعالم العربي على أعتاب عصر جديد.
إن أهل الصحراء الذين لا يملكون مواهب هذا الصديق في قراءة لوحة الفتاة ذات الثوب الوردي ولم يقلقوا لحال المرأة العربية هم من أسس أعظم تعليم نسوي في العالم العربي حتى أصبحت الأمية بين النساء السعوديات أندر من الكبريت الأحمر، بينما المرأة في بلاد الوديان العربية التي ازدحمت منذ قرن ونصف القرن بالحداثيين قراء اللوحات الفنية ظلت حتى يومنا هذا مفلسة من كل تراث الماضي، اللهم إلا الأمية التي استطاعت بفضل مشاريع أولئك النجباء الحفاظ عليها.
إن أهل نجد الذين لم يزوروا يوما متحف The National Gallary ولم يفكروا في زيارته يوما، ولم ينتقدوا جمود الثقافة العربية المتحجر [كما يزعم د مأمون وصديقه] استطاعوا أن يبنوا جيلا من العلماء والمثقفين والشعراء والمؤرخين والجغرافيين والمثقفين يفوقون بعددهم جملة مشاهير المثقفين في بعض بلاد الوديان العربية أو كلها، هذا والعهد قريب جدا، فإن اليوم الذي أعلن فيه عن نشأة المملكة العربية السعودية عام 1351 كانت فيه بلاد الوديان زاخرة بكبار أهل العلم والثقافة والفلسفة، واستطاعت المملكة بأبنائها الذين لم يشاهدوا فرنسيا أو إنجليزيا في حياتهم أن يبنوا صروح العلم حتى أصبحت المملكة بحق عاصمة للثقافة العربية والإسلامية.
الخلاصة: إن الأمة العربية إنما يوقدون الأمل فيها من يثقون بثقافتها الإسلامية وتراثها وآدابها وينطلقون منها في بناء حاضرهم ومستقبلهم، أما المنهزمون والمنطلقون من ثقافة الآخرين فلن يكونوا سوى أعباء وأحجار عثرة، خاصة حينما يتمكنون من دفة توجيه القرار في بلادهم كما كان الأمر في بلاد الوديان العربية.