من المفاهيم التي يجب أن نُعرف أبناءنا عليها من خلال التعليم "العدالة الاجتماعية"، إنها فلسفة تعليمية حيث يتم التركيز على تعزيزها وغرس القيم التي تحتويها في نفوسهم، ومن أهدافها تزويد المتعلمين بالمهارات والخبرات اللازمة لتدعيم التغيير الاجتماعي وتأكيد وتفعيل المساواة بين الأفراد. ماذا يعني ذلك؟ يعني أولا الاعتراف بالاضطهاد بجميع أشكاله، فنحن لا نعيش في مجتمعات ملائكية، وعليه يتم اتخاذ الإجراءات من خلال تبني إستراتيجيات تدريسية أو تعليمية سواء كان ذلك في الفصول الدراسية أو قاعات المحاضرات، تسهم في اختراق دائرة الاضطهاد لكي يتم التعامل معها بإيجابية، وبالتالي وضع حد لها أو على الأقل التقليل من أضرارها.

دائرة الاضطهاد كما عرّفها بعض المختصين عبارة عن دائرة لا تنتهي من المعاملة غير العادلة لمجموعة من المجتمع، وتظهر على شكل صور نمطية، أحكام مسبقة، تمييز، قمع، أو اضطهاد ذاتي. والآن قبل أن أتحدث عن كل نوع يجب أن يسأل كل فرد منا نفسه ويجيب بكل شفافية: هل مارست يوما الاضطهاد؟ هل تعرضت يوما لأي شكل من أشكال الاضطهاد؟ كثيرا منا ينكر أنه مارس الاضطهاد، والأكثر يعترف بأنه تعرض لنوع من الاضطهاد، لكنه لا يستخدم هذه الخبرة للتقرب والتعرف على ما يعانيه الآخر! عندما تجيب بشفافية وفقط حينما تجيب بشفافية وتعترف بهذه الخبرة تستطيع أن تتخطى الدرجة الأولى من سلم المعرفة، وتبدأ بالبحث للتعرف على نفسك قبل أن تفكر بأن تحمل شعارا أو تردد مقولة فارغة من المعنى لأنك بالداخل لا تعترف بها! هنالك من يحمل شعارا أو شعارات عدة وينادي بها كحقوق المرأة أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو الطفل أو الفقراء أو غيرها الكثير، ولكنها مجهودات عاقرة بلا نتائج! إن لم تعش نوعا من الاضطهاد لن تعرف طعمه، ولن تستطيع أن تتخيل ما يجري في نفس وروح المُضطهد! ليس المطلوب أن تتكلم بالنيابة عنه ولكن المطلوب أن تتفهم ألمه وتتحدث عن كيفية الاقتراب والتواصل معه، عن كيفية مساعدته ليسترد حقه أو يحفظ كرامته أو يأخذ وضعه الصحيح من المجتمع، ولأنك تتفهم ولأنك اقتربت قد تستطيع حينها أن تتواصل وتنقل خبرتك للذين ينتمون لنفس نوعك أو جنسك، شريحتك، مذهبك أو دينك وتبدأ ببث رسالتك. كل فرد منا لو بحث بعمق سيجد أنه يعيش على جانبي الاضطهاد/ الامتيازات التي نسمي بعضها "نِعم من الرحمن" وبعضها "قدر"؛ مثل أن تكون رجلا، بصحة جيدة، من جنسية معينة، من مذهب معين، من رتبة أو وظيفة معينة، من شريحة معينة... وهكذا، فإن أراد وهنا أركز على الرغبة والإرادة، يستطيع أن يأخذ من جانب ليصب في الثاني.

والآن لنشرح باختصار مكونات دائرة الاضطهاد؛ أولا الصورة النمطية وهي "مجموعة من التعميمات المتحيزة والمبالغ بها، يتبناها الفرد دون خبرة مباشرة عن خصائص جماعة معينة من الناس، تتخذ شكل فكرة ثابتة يصعب أحيانا تعديلها وإن توفرت الأدلة على خطئها"، هنا لنفكر معا ما الصورة النمطية للمرأة العربية؟ للمرأة المسلمة؟ للمسلم الملتزم؟ للمسلم الوسطي؟ للرجل العربي؟ للعرب؟ كيف تعامل معها الغرب وكيف نتعامل معها نحن في مجتمعاتنا؟

ثانيا: التحيز وهو عندما "يتم التعبير عن الاعتقاد السلبي حول مجموعة من الناس أو أفراد منها مما يؤدي أحيانا إلى الانتقاص منها أو من حقوقها أو التعدي عليها أو عدم التعامل معها"، ونجد أمثلة على ذلك في التوظيف أو فرص التعليم أو توزيع الموارد أو تبني الأفكار أو المدارس الفكرية أو الانتماء وتشجيع الأندية الرياضية.

رابعا: التعصب ويتضح بالسلوكيات التالية: ضيق الفكر، الرغبة والاستمرار في الجدال العقيم، الجمود والتعنت، عدم الاعتراف أو إغفال العيوب الذاتية، الانغلاق، العمل على تعطيل أو وضع العوائق في طريق من يعتبره الخصم أو الأقل شأنا، التكبر والاستهزاء والسخرية والتقليل من الآخر خاصة حينما يجد نفسه غير قادر على مجاراة الحوار! فهنالك من يفضل أن يكون حوله من هو أقل شأنا منه، حسب منظاره وتصنيفاته للبشر، كي يشعر بقيمة ذاته!

خامسا: القمع وهو عندما "تمارس المجموعة الاجتماعية الأقوى، سلطةً أو قوةً بطريقة قاسية أو غير عادلة"، للتوضيح هنا أضرب مثالا قول أحد العنصريين من جنوب أميركا لرجل أسود: "المساواة في فرص العمل والتعليم تعتبر مأساة بالنسبة لنا، لأن فِعل ذلك قد يبين لنا عدم قدرتنا على المجاراة بتقديم الأفضل أو حتى نفس المستوى"!

سادسا: القمع الذاتي أو الداخلي؛ وهو يحصل عندما يستسلم "المتعرضون أو ضحايا العنصرية والنمطية ويبدؤون بالاعتقاد وتقبل العيش في ظل تلك الرؤى والأحكام". كأن تطالب امرأة معنّفة بحقها في المحكمة، شرعا وقانونا يحق لها، ولكن مجرد ذهابها للمحكمة لا يتماشى مع الرؤية التي فُرضت عليها؛ المرأة الأصيلة هي التي تصبر ولا تعترض، وهذا يشعرها بالحرج والضيق ولكنها تتقبله ولا تنفيه أو تحاربه لاعتقادها بأنها خرجت عن العرف والتقاليد!

لكي يتم التغيير يجب أن ننتبه أولا إلى أن أحد أسباب فشل التواصل وخرق دائرة الاضطهاد أننا كبشر نرفض أن نضع أنفسنا مكان الآخر ونتعلم، وأبعد من التعلم، التعاطف! في رواية "لقتل الطائر المحاكي" لهاربر لي يقول الأب لابنته: "لن تفهمين حقا شخصا ما حتى ترين الأمور من وجهة نظره... حتى تعبرين من جلده إلى داخله وتتجولين". اليوم تسأل والكثير يجيبك بأنهم مع العدالة والمساواة، لكن في حقيقة الأمر نجد أن الغالبية بطريقة أو أخرى ليسوا على هذا الرأي لأنهم يضيفون كلمة "ولكن" ومن ثم يسترسلون بالحجج والأدلة التي تدعم موقفهم! أو يؤمنون بأن المساواة نسب ودرجات؛ على طريقة ما جاء في رواية "مزرعة الحيوانات" لجورج أورويل: "كل الحيوانات متساوية، ولكن بعضها أكثر مساواة من الآخرين"! ولهذا نجد أنه من الضروري تعليم العدالة الاجتماعية بدءا من المداس حتى الجامعات، لنستطيع أن نخترق ونعبر بالمجتمع إلى المرحلة التالية من المسيرة، ونسهم في تحقيق الرؤية الوطنية، فبدون تعاون وتفاهم لن يكون لديك وحدة وطنية، وبالتالي لا يمكن حل القضايا الرئيسة، وسنبقى ندور في متاهة الفروع.