حين تطل من أعلى عقبة كرا بالطائف يبدو لك وادي نعمان فسيحاً ممتداً وقد اكتسى بأشجار السلم والسدر والسمر والعشر، وما إن تهبط من الجبل وتغادر أسفل الكر حتى يتلقفك خبت نعمان فتدخل في أعماق التاريخ بشاعريته وجماله وبعراقة مواطن قبيلة هذيل منذ القدم، كنا ننعطف بالسيارة يمين ويسار الخط المتجه إلى شداد والعابدية وعرفات وصولاً إلى مكة، ونسيح في أعماق وادي نعمان "بفتح النون" المنسوب إلى النعيم ورغد العيش وليس إلى اسم نعمان، ونرى بين فترة وأخرى الأرانب والوبران التي يقتنصها هواة الصيد، ونترجل من السيارة ونسير في بطن الوادي ونحن نستحضر الشاعر الثقفي محمد النميري الذي كان يتغزل بزينب أخت الحجاج بن يوسف الثقفي:

تضوع مسكا بطن نعمان إذ مشت

به زينب في نسوة عطرات

يخبئن أطراف البنان من التقى

وأقبلن لا شعثا ولا غبرات

ولما رأت ركب النميري أعرضت

وكن من أن يلقينه حذرات

ولما سأله عبدالملك بن مروان عن ركبه في وادي نعمان قال: أنا وأربعة أحمرة لي يحملن القطران.

كنا في نعمان نحفر في الرمل على أطراف مسايل الوادي لننزع من جذور شجر الأراك مساويك الراك أو الأراك والتي سمي الوادي باسمها "نعمان الأراك"، نستاك ببعضه ونهدي الكثير منه ونحن نسير على خطى الشاعر عمر بن أبي ربيعة الذي يقول:

تخيرت من نعمان عود أراكة

لهند ولكن من يبلغه هندا

والشاعر الفرزدق القائل:

دعون بقضبان الأراك التي جنى

لها الركب من نعمان أيام عرفوا

ونعيش أجواء قيس بن الملوح وهو يناجي ليلى العامرية:

ألا أيها الركب اليمانون عرجوا

علينا فقد أضحى هوانا يمانيا

نسائلكم هل سال نعمان بعدنا

وحب إلينا بطن نعمان واديا

ألا يا حمامي بطن نعمان هجتما

عليّ الهوى لما تغنيتما ليا

وشاعرية المكان لم تقتصر علينا فحسب، بل أصحبت جزءاً من المخيال الشعري العربي يتغنى به محمد المختار الشنقيطي من موريتانيا، وعبدالله الطيب من السودان، والطيب صالح من لندن إبان موسم هجرته إلى الشمال، وجبران خليل جبران في ولاية فرجينيا بالولايات المتحدة الأميركية، والشاعر القروي رشيد سليم الخوري في البرازيل، على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، كل هؤلاء وغيرهم كان نعمان الأراك حاضراً في مخيالهم الشعري وساروا على درب النميري وزينب والمجنون وليلى وصبوات الفرزدق وعمر بن أبي ربيعة.

ما الذي جدّ في نعمان الأراك حين تفسد طبيعته الشاعرية الوادعة إلا من قمرية الوادي وتغريد بلابل الدوح وجلبات الوادي حين يسيل وخرير خرزات عين زبيدة تحمل الماء إلى عرفات ومنى ومكة؟

ما الذي حدث حين أفسد هذا الهدوء الشاعري طلقات الرصاص وأصوات انفجار الأحزمة الناسفة، وبعد أن كان نعمان حاضنا لحمام المحبين جاء الإرهابيون واتخذوه مخبأ لفكر قاتل ووكراً لقتلة ومخبأ لعمليات إرهابية؟

حفظنا منذ صغرنا حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: "وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده"، وكنا وما زلنا كلما ادلهمت الأمور وضاق الصدر هرعنا إلى بيوت الله نلتمس السكينة، ثم جاء قوم وزرعوا الخوف في بيوت الله.

إن الذين اختبؤوا في وادي نعمان وأفسدوا سكونه الشاعري هم أنفسهم الذين زرعوا الخوف والقتل والغدر والغيلة والدمار في مسجد المحالة بعسير ومسجد المشهد بنجران ومسجد المصطفى بالأحساء ومسجد العنود بالدمام ومسجد الإمام علي بالقطيف وقتلوا وروعوا المصلين سنة وشيعة وإسماعيلية وهم الذين ارتضوا أن يكونوا أدوات الشر لملأ يأتمرون بنا في العراق وسورية ولبنان وإيران وغيرها.

حين نستهدف في حياتنا وأمننا وسكينتنا وطمأنينتنا وعمقنا الوجداني لا يكفي أن نركن بكسل إلى الأمن والأمان الذي توفره أجهزة الدولة، ونمضي في حياتنا، ولا أن نهدر وقتنا وجهدنا وأموالنا في مؤتمرات وملتقيات ومحاضرات وشعارات عن الأمن والإرهاب لا يحضرها إلا المعدون والمدعوون ولا تستفيد منه إلا مؤسسات تنظيم الفعاليات والمطابخ والفنادق ومحلات تجهيز الدروع وشهادات التقدير ثم لا شيء بعد ذلك.

لم نلمس في كثير من مؤسساتنا الحكومية والمدنية غير الأمنية أي مشروع وطني مدروس وفعال يصدر عن رؤية واضحة مستنيرة وصادقة، ورسالة وطنية واقعية وليست مجرد شعارات ومزايدات وفرقعة إعلامية، وتكون لها أهداف واضحة تتجه مباشرة إلى المستهدفين الحقيقيين وبعيداً عن محاولة استرضاء هذا التيار أو ذاك، وبعيداً كل البعد عن صراع الديكة الإسلامي الليبرالي.