لو سئلت عن أتفه القضايا التي يجترها المجتمع السعودي، ولا يفتأ يذكرها بين الحين والآخر لقلت قضية (قيادة المرأة للسيارة)، وأرجو ألا ينزعج الإخوة المطالبون بذلك من هذا الوصف، فأنا بالفعل لم أشعر يوماً بأهمية هذه القضية، ولا أعتبرها تستحق كل هذا النقاش والضجيج والتلاحي في الخصومة، فهي في نظري حق طبيعي يشبه حق الإنسان في المشي والتسوق والسفر، ولا شك في أن مناقشة قضية واضحة من هذا النوع مضيعة للوقت، هذا من الناحية الشخصية، لكن بما أن هذا هو الواقع؛ فهل الحل في أن نتجاهلها؟ أليس من الأنانية أن أعمل على تسطيح قضية مفصلية لدى شريحة كبيرة من المجتمع؟!، وهل يجوز لي أن أحكم على أحوال الناس وظروفهم من خلال أحوالي وظروفي الخاصة؟!، أم هل يحق لي أن أكتب مقالاً أستهلك فيه وقت القرَّاء لأقول لهم: إني لن أسمح لامرأة من أسرتي بقيادة السيارة؟!، فهذا الأخير تحديداً يشبه أن يقول إنسان إنه نباتي يكره أكل اللحوم!، يتحول فيه الرأي إلى أشبه ما يكون بكتابة السير والمذكرات الشخصية، أو يكون استغراقاً في الوجدانيات الخاصة، والخيارات الشخصية التي لا تهم أحداً ولا يحفل بها أحد، فأنا أدرك أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، و(من رجله في الماء ليس كمن رجله في النار) كما يقول المثل، فلئن كنتُ قادراً على استقدام سائق خاص وتأمين سيارة فغيري لا يقدر، ولئن كنت لأسباب قدرية في أسرة عدد الرجال فيها أكثر من عدد النساء فهناك أسر ليس فيها رجل واحد، كما أني من ناحية مبدئية أؤمن بشيئين، أولهما: أن الذين يعارضون قيادة المرأة للسيارة لأسباب دينية وفي نفس الوقت يسمحون باستقدام سائق أجنبي إنما يخدعون أنفسهم قبل خداعهم للناس، وهم بذلك كالمستجير من الرمضاء بالنار، ولا أستبعد أن تكون معارضتهم ليست أكثر من النكاية بخصومهم من التيار الآخر، لكن إضفاء القدسية عليها مهم من أجل دغدغة مشاعر البسطاء وحشد الأتباع، وإلا فإن التاريخ لم يخبرنا لا في الجاهلية ولا في الإسلام أن الناس قد أمضوا جل أوقاتهم في الجدل حول حق المرأة في أن تقود الأباعر والحمير!، ولا أدري فيما إذا كان هذا الحق مستمراً أم تغير مع الزمن؟!، كما أني موقن أن الحكومة فيما لو سمحت للمرأة بقيادة السيارة فسنرى المعارضين مع الوقت يتحولون تدريجياً من الإحجام إلى التبرير، فالقبول التام، وأنهم حين يعتادون ذلك فسيتعصبون لقضية القيادة كما تعصبوا ضدها، والأدلة على ذلك لا حصر لها، منها أن الذين كانوا يعارضون استخدام مكبرات الصوت في المساجد الآن يعتبرون المطالبة بتخفيض أصواتها حرباً على الله ورسوله!. وثانيهما: أن الحقوق الشخصية لا تخضع لاستفتاءات الرأي العام، ولا علاقة لها بالقلة أو الكثرة، بل الواجب على الدولة ضمانها لمن يرغبها ولو كان فرداً واحداً ما لم تخالف قطعياً من الدين، أو تشكل خطراً على الأمن.
من المستغرب أن الناس لم يصلوا بعد إلى أسباب المنع بشكل حاسم، ولا يكاد يستقر بهم الحال على رأي حتى يأتيهم رأي آخر، يتبناه البعض بالوثوق نفسه والحماسة نفسها، فمرة يقال لهم إن أسباب المنع دينية محضة، بدليل أن تصريحات صادرة من جهات لها قيمتها واحترامها تقول: (إن قيادة المرأة للسيارة قد تفتح عليها أبواب شر ولا تنضبط أمورها، لذا لا يجب أن يتم إقرار هذا الأمر لأنه خطير)، ومرة يقال لهم: إن أسباب المنع اجتماعية خالصة لا علاقة لها بالدين، فما عدنا ندري عن أسباب المنع على وجه التحديد؛ هل هي دينية أم اجتماعية، أم كلاهما؟ وأصبحنا نراوح مكاننا، فكلما أراد العالم إشغالنا أخرج هذا الملف ووضعه فوق الطاولة، والمضحك في ذلك أن الصراع يتم بين فريقين، فريق يرى الحق للمرأة في أن تقود السيارة، وفريق آخر يرى أن الفريق الأول ليس له الحق في أن يرى الحق للمرأة في أن تقود السيارة، مع أن الفريقين لهما حرية الاختيار، وكان يمكن لهما أن يتصرفا بشكل مستقل ولا علاقة لأي منهما بالآخر!، لذا فإن هذا الموضوع يصلح أن يدرج في كتاب (المستطرف في كل فن مستظرف) كبديل مناسب للقصة الشهيرة عن أحمقين اصطحبا في طريق، فقال أحدهما للآخر: تعال نتمنَّ على الله، فإن الطريق تُقطعُ بالحديث، فقال الأول: أنا أتمنى قطائع غنم أنتفع بلبنها ولحمها وصوفها، وقال الثاني: أنا أتمنى قطائع ذئاب أرسلُها على غنمك حتى لا تترك منها شيئا، قال: ويحك!، أهذا من حق الصحبة وحُرمة العشرة؟!، فتصايحا، وتخاصما، واشتدت الخصومة بينهما حتى تماسكا بالأطواق، ثم تراضيا أنَّ أول من يطلع عليهما يكون حكما بينهما، فطلع عليهما شيخ بحمار عليهِ زقَّان من عسل، فحدّثاه بحديثهما، فنزل بالزقّين وفتحهما حتى سال العسل على التراب، وقال: صَبَّ الله دمي مثل هذا العسل إن لم تكونا أحمقين!.