يهدي الكاتب ثامر شاكر كتابه الذي حمل عنوان "الأستاذ" إلى أستاذ اللغة العربية أحمد مُصلح الذي "خطّ بأصابعه ذات حصة في دفتري: "مقدمةٌ أدبيةٌ جميلة تُنبئ عن مستقبل أدبي واعد".
يكتب شاكر عن السعادة، عن تأثير العالم الافتراضي من ضياع علينا، عن رجل عمره ألف كلمة، مقدماً عصارة نصائحه، وخلاصة رؤيته.
يهدي الكاتب ثامر شاكر كتابه الذي حمل عنوان "الأستاذ" إلى أستاذ اللغة العربية أحمد مُصلح الذي "خطّ بأصابعه ذات حصة في دفتري: "مقدمةٌ أدبيةٌ جميلة تُنبئ عن مستقبل أدبي واعد".. شكراً لك.. فأنا من يومها لم أُفرّط في هذا القلم".
يكتب شاكر عن السعادة، عن تأثير العالم الافتراضي علينا، عن رجل عمره ألف كلمة، مقدماً عصارة نصائحه، وخلاصة رؤيته.
السعادة أن ترتدي ملابس العشرين
جون رومي يبلغ من العمر 70عاماً. مازال يُمارس السباحة يومياً، في كل سنة يُحطم رقماً جديداً. مستر رومي الذي يحرص على الرياضة منذ نعومة أظفاره لم يُغيّر مقاس بنطاله منذ كان في العشرين، وهو بذلك يتباهى ويفتخر. سألوه ذات يوم عن سر هذا الشغف.. ابتسم في صمت ولم يُجب، وكأن لسان حاله يقول: ابتسامتي وسر سعادتي مقاس بنطالي!
الكهل الشاب لم يدخل أي مسابقة في حياته. لم يحلم أن يكون عارضاً للأزياء ليُحافظ على رشاقته طيلة هذه السنين. كل ما في الأمر أنه قرر أن يُنافس نفسه. قرر أن يكون هو وذاته في تحدٍ لا ينتهي. لم يهتم كثيراً بمن سيُصفق، ومن سيُصفر ومن سيُشجع. أراد فقط أن يستمتع، هذا كل ما في الأمر.. فعاش حياة جميلة مديدة تستحق أن تُعاش. قد يستهزئ البعض متسائلاً.. أهذا هو سر السعادة؟! دعني أفاجئك وأهمس في أذنك.. نعم، أحد أهم أسرار السعادة التي نتجاهلها ولا نُعر لها بالاً أو اهتماما.
السعادة أن تشعر بأنك تكبر وتنجح وتنجز، وقلبك كما هو لم يتغير، لم ينمُ له شارب كثّ، لم يرتدِ زياً ماكراً حتى يبدو أنه من علِية القوم.. لم يبحث عن دور الشيخ الوقور في كل مشهد.. لم تُصِبْ تجاعيد العمر وجنتيه الجميلتين، لم تترهّل سواعده رغم أحزان الفقد وضربات القدر وعثرات الأيام. بقي رغم كل هذا العمر حياً شاباً نضراً للأبد، وهذا أجمل ما في الأمر. درسٌ ثمين يُعَلمنا إياه السيد رومي دون أن يدري أو ربما يدري. شبابك، طيشك، جنونك، نظرتك... طبيعتك ستجعلك في حالة نشوة دائمة. سعادتنا الحقيقية في أحاسيسنا تلك التي نسحقها للأسف في رتابة مُرددين في فتور وملل.. "هذا هو حال الدنيا"! قِمة التعاسة أن نصل للشيخوخة ونحن مازلنا في ريعان الشباب، هذا ليس حال الدنيا بل حالنا. السعادة ذكيةٌ جداً وعفويةٌ جداً وسخية جداً، ستمنحك نفسها وتهبك روحها.. فقط كن على قدرها. احفظ كل أثر تركته فيك ذات يوم، حتى لا تضلّ طريقها إليك.. السعادة امرأة تتدلل، تعبس بكذب، تتمنّع في غنج، لكنها تنتظر يديك أن تُعانقها في هيام حتى تمنحك كلها وبعضها للأبد.
يسألونك عن سر السعادة. ابتسم وأخبرهم في ثقة أننا من يذبحها ذبحاً ثم يبكي فراقها. وأن سر السعادة الأعظم أن نشعر بعد كل هذا العمر أننا لم نتغير في كل شيء، رغم كل شيء.
عمره.. ألف كلمة
هل فكرت يوماً في أن تتقمص شخصية باب، أو أن تكتب بشعور نافذة تراقب قصة كل عابر سبيل.. هل تساءلت ولو لدقيقة عن قدرة الجدران على الصمود أمام ضربات القدر، عن حنينها لمن فارقها، عن شوقها لمن بكى على صدرها، عن آلامها لتصدعات الزمن..
هل فكرت للحظة في أن تلعب دور زهرة، أو موجة، أو حتى قلب عصفورة ترحل وعينها تذرف الدمع شوقاً .. هل تخيلت أن تكون شيئاً آخر غير ذلك الكيان الصارم الذي لا يشعر حتى بأقرب الناس؟!
قصة جميلة مختلفة، أتت تفاصيلها من خلال فيلم لإيدي ميرفي بعنوان "ألف كلمة" لتأخذك مع أحداثها العجيبة وبطلها التائه ما بين بريق النجاح والمجد وأبسط معاني الإنسانية.
الرجل الثرثار، رجل المبيعات المرموق، الذي لا يعرف سوى لغة المال، يُدرك جيداً سر مهنته، يعرف أنه يجب أن يثرثر ليكسب أكثر، ليبيع سلعة، ليربح صفقة.. لكنه يكتشف فجأة في خضم نجاحاته، أن شجرة ضخمة تحتل فناء بيته وقد أصبحت مرتبطة بكلماته، تتساقط أوراقها مع كل كلمة ينطق بها ولو همساً.. ليُدرك أن عمره سيفنى مع سقوط آخر ورقة.. وكأنه يُشاهد بروفة حية لتاريخ وفاته، وقد بدا له عدد الأيام المتبقية من مشوار حياته، وأن بوسعه أن يُطيل عمره أكثر إذا ما صمت!
يُجن جنون الرجل، يصرخ، يبكي.. يتألم، يستغيث، يكاد أن يخسر عمله، وهو رجل المبيعات المرموق الذي اعتاد أن تكون سلعته الحديث المُنمّق والحوار البرّاق فإذا به يتحول لأصم يُحاول أن يُتمم صفقاته بلغة الإشارة.. يلجأ للمشعوذين حتى يُنقذوا حياته، علّهم يجدون حلاً، علّهم يُطيلون في عمره يوماً أو حتى ساعة، لكن لا فائدة!
يعود لأمه المُسنّة التي يفتك بها الزهايمر وقد ضاقت به الدنيا، تُخاطبه على أنه أبوه الراحل، تعانقه، تشم رائحة ابنها الغائب عنها، تفتِك ذاكرة الأمومة بالزهايمر الهش، وتنتصر عليه، تبتسم: "أنت جاك"، أخبر أباك أنك سامحته يا بُني، كنت دائماً شديد الغضب، تلومه منذ أن تركنا ورحل"!
ينصرف الابن العاق وقد قرر أن يتغير، يزور ضريح أبيه، يُلقي عليه كلمات الحب، يُعانق ذكراه بعد غياب، يصفح بعد طول غُربة وقسوة، تخضرّ الشجرة، وتعود لها وله الحياة بعد أن تعلّم الابن الذي أنسته الدنيا ببريقها وصولاتها وجولاتها معنى التسامح والحب.. والعطاء الحقيقي.
فيلم جديد ضمن سلسلة خزعبلات هوليود الشهيرة، ربما.. لكن يجب أن نعترف أنه حمل في طياته لقطة حية وقيمة حقيقية تناسيناها في مشوار حياتنا المليء بالفوضى والقسوة.. معانٍ تعدّت حدود الخيال العلمي المُمل.
حتى ناسا تطل من نافذتها السحرية المشهورة، لكنها هذه المرة من خلال أحدث صُورها للقمر، والذي بدا لأول مرة من زاوية مختلفة علينا نحنُ بني الأرض. اللقطة النادرة يقول العلماء إن سبب أهميتها أنه تم التقاطها بعدسات متطورة جداً، وأنها أتاحت للبشر المساكين رؤية الوجه الآخر للقمر. ذلك الوجه الذي من المحال أن يراه أحد، لأن القمر باختصار لا يواجه من أمامه دائماً إلا بوجهه المُضيء.
لا تملك نفسك وأنت تقرأ مثل هذه الأخبار إلا أن تستحضر قصص الحديقة الخضراء وألف ليلة وليلة بكل بساطتها وربما سذاجتها، إلا أنها كانت صادقة جداً وواقعية جداً. نحن نخسر من حولنا بحدتنا، نعتقد أحياناً أنهم يصدقون تبريراتنا، يغفرون لنا خطايا تجريحنا وتصاعد قلقنا الذي أصبح في تصاعد مستمر مع ضغوطات الحياة. إنها ضريبة الحضارة التي وصل إليها الإنسان الحديث. فالجدول اليومي على سبيل المثال لأفراد قبيلة الهادزا التنزانية هو ساعتان في الصباح لقطف التوت البري والبحث عن العسل وصيد الطرائد الخفيفة وتسلية الأطفال وسرد الحكايات ثم الاسترخاء، كما ذكر لنا محمد حسن علوان. قارن ذلك بجدولنا اليومي وحالتنا النفسية وتوترنا وتنافسنا حتى مع أنفسنا، لدرجة أننا بتنا نرى الأيام تتسارع ونحن نصرخ في دهشة واستغراب. يقول أحد الأطباء النفسيين في شهادتهم على تأثير أنشطتنا الجديدة على تفاصيلنا اليومية.. "لم يعد بوسع الأب أن يعرف متى كبر طفله وأصبح شاباً، هو يعمل صباحاً ومساءً، ولم تعد حياته ملكاً له وحده، بل انفتح العالم على مصراعيه، إنه في حالة سعي مستمر ودؤوب مع عالمه الحقيقي والافتراضي"! لا عجب بعد كل ذلك أن يزداد لهيب الغضب وتتصاعد وتيرة التوتر والإجهاد داخلنا لتنعكس على كل ما في حياتنا، وعلى أقرب الناس إلينا. ما أكثر الحانقين في حياتنا، الذين يُحيلون العمر وما فيه إلى محرقة.
سامح واغفر، حتى لا يُداهمك الخريف ويقتل أجمل ما فيك.
حين تكون غاضباً بل في قمة سخطك من الدنيا، استظل بمن تحب.. معهم فقط سيتحول قيظ الحياة إلى ربيع ساحر.
نعم، لا تغضب.. كما تشاءُ! كن أنيقاً حتى في غضبك.. في يومٍ ما سنرحل جميعاً، ولن يتبقى منّا سوى قصاصة وصورة.. وذكرى!
منصات لا تشبهنا
نظرَ في وجوهِ الحضور وقد اعتلى المنصّة في إحدى المناسبات الاجتماعية المهمة بإحدى الجمعيات الخيرية المعروفة.
رتّب هندامه، عدّل نظارته، رسم ابتسامة مُصطنعة على وجنيته الباردتين، تنحنح، ألقى بنظرة مترددة بين زوايا المكان، بدأ المحاضرة، ثم انطلق.. شرّق وغرّب، أبحرَ، صالَ وجال، أعاد ضبط نبرة صوته حتى تتماشى مع وقع الحدث: "أيها اللُّقطاء لا يأس مع الحياة ولا حياةَ مع اليأس، لا تلوموا الزمان، بل اصنعوا حاضركم.. انتفضوا، اكسروا قيد الخوف والخجل، حلّقوا إلى حيث النور والغد المُشرِق.. أطلِقوا العملاق الذي بداخلكم".
في آخِر صف من هناك، قام أحدهم فجأة، مُبتسِماً، مُوجِهاً سؤاله للمُحاضِر الفذ بصوتٍ رصين يحمِل في تفاصيله شرارة التحدي والاستهجان: "أستاذ هل لديك بنات"؟، ليُجيب المُحاضِر الذي بدت آثار الدهشة على محياه، مُتلعثماً: "نعم"، ليستِطرد الشاب بثقة: "أتقبل أن تُزوجها لأحد هذه الوجوه التي تُحاضرها في تنظيرٍ وبرود"، ثم هبّ مُنصرِفاً وسط همهمة الحضور، ونظرات المُحاضر الزائغة، تاركاً كل ما في المكان يغرق في بحورٍ من دهشة وعبارات تتخبّط ما بين الحناجر والعيون وسط عواصف حيرةٍ مُدمّرة!
مثال حيٌ وقاسٍ.. صفعة بقوة ألف ريختر تُعلِمّك درساً مُؤلماً: التنظير لا ينفع، بل قد يكسِر ويُحيل كلّ ما حولنا إلى أَعاصير تُزمْجر بلا رحمة. الجُروح قد تكون أكبر بكثير من أن تُداوى من أسطح المنابر العابرة والمنصّات الخاوية، أو من خلال حناجِر خجولة هشّة لا تعرف لغة الواقع، وقد تناست أن برودة الطرح وسقامة المعنى ومثالية المحتوى تقتل كل بصيص نور في كل روح مشتاقة تواقة للأمل.
في الوقت الذي كان صاحبنا الفيلسوف يأمر الحضور أن يطلقوا العِملاق الذي بداخلهم، كان مارد آخر يطل برأسه حانقاً.. وقد همّ بالانطلاق لينهش كل ما في المكان رافضاً كل تلك المحاولات الخجولة من أن تقترب! كلمات التحفيز الكاذبة، والأمنيات الحالمة لم تُجد نفعاً ولم تُحرّك ذرة أمل في تلك الملامح التي أضناها التعب وأنهكها الألم منذ محطة العمر الأولى.
هذا الزمن السخي جداً، منح لكل واحدٍ منّا منصّة. الأهم أن تكون صادقاً جداً مع نفسك، أن تكون مُستعدّا واثقا أن لديك ما تُقدمه، والأهم أن تملك جوارحَ حاضرة تفوق جسدك ولسانك حسّا وحياة، وإلاّ جرحت برعونتك الأنفس الحزينة وأدميتها بلا طائل، وزِدت على جروحها ألف جرحٍ في لحظة.. الحياة أكبر من أن تُختزل في نصائحٍ ساذجة! وسام الصدق أفضل ألف مرة من حضور كاذب وعبارات مُنمّقة.
إن مِتّ أحرقوا هاتفي
آخِر الدراسات التي ظهرت على قناة "سي إن إن" الأميركية كانت صادمة، تقول: إنَّ فيسبوك يُصيبك بالعين، وإنَّ إنستجرام يجلب لك المآسي والكدر، وتويتر يُصيبك بالضغط والسكر، وسنابتشات يُحيل خصوصيتك إلى طُرفة، أمّا واتساب فلا داعي لدراسات "سي إن إن" لتُخبرنا عمّا يفعله بنا، تكفينا تلك الإشاعات التي تعصفُ بنا، نتداولها ونُصدقّها في كلِّ لحظة وقد سلمناها أنفسنا عن طِيب خاطر؛ لقد قُيِّدت مشاعرنا وغُيرّت أمزِجتنا ولم نكتفِ بذلك؛ بل نتسابق إلى نشرها ونحن لم نتكبّد حتى عناء البحث عن مصداقية المعلومة؛ ونتجاهَل أنَّها وباءٌ مرير، فنقتلُ أنفسَنا ونُسَاهِم بكلِّ فخر في قتل المجتمع بجهلنا.
واتساب وسنابتشات وما شابَهَهُما؛ شاهدٌ حيٌّ على أغلب قضايا الطلاق في بلادنا؛ تكفيك زيارةٌ لإحدى محاكم الأسرة، أو جَلسةُ دردشة مع أحد القانونيين ليُخبرك عن كوارث الخيانات ونِسبتِها؛ لِتعلمَ حجمَ فداحةِ المأساةِ، التي يقولون إنَّ بطلَها الأوَّلَ أصبحَ "مواقعُ التواصلِ الاجتماعي" بلا مُنازع.
يُحكى أنَّ شاباً فتِيّاً أوصى ذات يومٍ المقربين مِنه قائلاً: "إنْ مِتُّ، أرجوكم أحرِقوا هاتفي النقّال، وحطّموا كلَّ أجهزتي ولا تُبقوا منها شيئاً"، هذه اللقطة وإنْ ضحكنا منها، لكنَّها تُمثِّل حقيقةً ليس بوسعِنا أنْ نُنكِرها؛ بِئر أسرارنا لم يَعُدْ قلب صديقٍ أو حُضن حبيبة أو دفتر مذكراتِنا الورديّ نُهرول إليه؛ في لحظةِ بردٍ لِندْفأ، أو سماءً صافية نرتمي تحتها ونهمس لنجومِها في ليلٍ ساحرٍ خلّاب؛ جِهازُك النقّال أصبح عالَمَك بِبَرِّهِ وبحرهِ أصبح كونك، يحمل ملامِحك، سِمات شخصيتك، بصمتك الحقيقية، التي لا تستطيع أن تُخفيها مهما وضعت ألف قناع؛ جهازُك السحريُّ يربِطُك بقائمة طويلة من البشر، بوجوهٍ لم تُقابلها من قبل، وأماكنَ تطؤها لأول مرة بعينيك؛ يمنحُك الفرصة لِأنْ تقتحمَ كلَّ عالم أردتَ وتمضي بلا جواز سفر، جهازُك أصبح نفسَك.
عالمُنا الافتراضي وحياتنا الأخرى قاسية، قد تكونُ صادمةً جداً، من كان يُصدّق أنَّها ستُصبح حياتنا الأولى، وأنَّها ستغدو مُتنفسّاً لأحلامِنا وطيشِنا؛ ساحةً نُمارسُ فيها نزقَنا ونمنحُ بعضاً من نصائِحنا؛ وقتما نشتاق إلى الحكيم الذي في داخلنا أن يظهر، نُحلّق تارةً وتارةً نسير بخطًى متأمِلةٍ، سبورة نُشخبِط عليها بأصابِعنا الثائرة، نُخفي أسماءَنا أحياناً وأحياناً أخرى نصرخ بكل ما فينا من رغبة وثورة وجنون.
أصبحت حياتنا السرِّية تروقُ لنا كثيراً وتؤرِّقُنا أكثرَ؛ نكتشفُ بعدَ كلِّ هذه السنوات أنَّ حياتنا الافتراضية تختبِرُ مبادِئنا كل يوم أكثرَ؛ تختبر الفضيلة الغائبة فينا، وتمتحِنُ صبرَنا وجلدَنا، وقُدرتنا الحقيقية على الحبِّ الصادق بلا مراوغةٍ؛ على الإخلاص بلا زيف، على الأمانة بلا مواربة، تختبرُ كلَّ فضيلة تباهَينا بها ذاتَ صباح قديم، أو لحظةَ نشوةٍ خادعةٍ وقفنا فيها أمامَ المرآة نتغنَّى بها؛ دون أن نكون حقاً على قدرها.
هل بوسعك أن تقول لا لعينك الحاسدة، أو لقلبك الطامع أو لعقلك المتجبّر؛ أو لِمن يُثير في داخلِك أية رغبةٍ غير صالحة للاستهلاك الإنساني؛ من حسد وغَيرة وطمع وشهوة.
"أرجوكم إنْ مِتُّ أحرقوا هاتفي النقال"، جُملة تُلخِّص قسوة حياتِنا الافتراضية، معاناتنا، خوفنا وتخبُّطَنا ما بين قِيَمنا التي ندَّعِيها، وأفعالنا التي تفضح هشاشة أخلاقياتنا، الوصية أقصر قصة في العالم، تتجسَّدُ فيها ملامحُنا جميعنا، وتجعلنا نتساءل في ذهول، حقاً من نكون؟! إنَّه الاختبار الأصدق، الذي لا مَناصَ منه.
قصة أمي
سألوا السياسي الستيني المشهور الذي نجا من عشرات محاولات الاغتيال والمؤامرات، والحصارات الدامية من المناهضين والثائرين.. وقد عاش قرابة نصف قرن في قلب الموت: ما هي أقسى لحظة مرّت عليك، قال وعيناه تدمعان: حين ماتت أمي شعرتُ بالخوف.. بين يديها فقط كنت أشعر بالأمان!
أمّا ستيف جوبز، حين سألوه: على ماذا أنت نادمٌ بعد هذا العمر، ليفاجئهم هو الآخر بإجابته: نادمٌ أنا على أوقاتٍ كنتُ فيها شرساً مع أبوي. لم أقدّر مجهودهما.
أمّا أحد الرؤساء السابقين، فقد سقط مغشيّا عليه وسط عدسات الإعلام حين همس أحدهم في أذنه بخبر مقتضب، لم يُبالِ كثيراً بكل تلك المراسم والبروتوكولات العظيمة.. ببساطة لم يعد شيء يهم.. فقد ماتت أمه.
سل من رحلت عنهم أمهاتهم فجأة في وسط الطريق وسترى ملامحَ شاخت وقلوباً تبعثرت وعيوناً تمزقت.. سل إن شئت من ولدوا من رحم فارقهم لحظة الميلاد وستجدهم يتساءلون في ضجر كيف عشنا لحظة الحياة والموت معاً. بقيت مرارة الفقد عالقة، رغم أنهم لم يُصافحوا ملامحها ذات يوم.
عند كل قصة من قصص الشرق والغرب أصادفها كنتُ أتأمل قصتي مع أمي. أقف طويلاً وأبتسم. أستعيد ذكريات حياتي فصلاً فصلاً. أحاول جاهداً أن أبحث عن نقطة البداية، أفشل تماماً.
أكتشف حينها كم كنتُ ساذجاً فيما أرنو إليه. أوَلقصص الأم بداية!؟ أو يعرف أحدٌ منّا متى بدأت قصته مع أمه؟! قصة الأم عجيبة جداً.. كل القصص تعرف سطرها الأول، الأم القصة الوحيدة التي من المحال أن تُمسك بخيط بدايتها. خُلقت قبل الذاكرة. رسمت ملامحها قبل نبض قلبك، مع بداية الكون..رواية الأم، الرواية التي لا خاتمة لها. رغم أن الموت خاتمة كل علاقة إنسانية، فإنه يقف عاجزاً أمامها بكل جبروته وسطوته. نحن نموت لحظة موتها، فحياتنا من بعدها، إنما نعيشها على أمل لقاء يجمعنا بها ذات يوم في الحياة الأخرى.
قصتي مع أمي عجيبةٌ جداً.. كل امرأة قابلتها، كنت أُخرج لها صورة أمي من جيبي وأخبرها متباهياً.. هذه الجميلة أمي، وكأني أتحدّى بجمال أمي نساء العالم بل الكون وما فيه. أذكر ابتسامتهن جيداً، ما بين غيرة وإعجاب، إلا أنه ما يلبث أن يتهاوى ذلك الصرح، تسقط فجأة أسوار كبريائهن، تأبى شفاههن إلا أن تعترف بالحقيقة.. "أمك يا هذا جميلة"! وحين تطوّر الزمن وأصبح العالم بين أصابعي، كنت أمارس العادة نفسها التي أصبحت فيما يبدو هواية لا تُمل. صورة أمي سلاحي أمام كل امرأة واثقة تتباهى بحسنها القتّال!
أمي قصة حياتي من الألف للياء. أمي كل عام وأنت نجمة في سماء الكون. كل عام وأنت قوية، جميلة كالدنيا.. تغيم، تغضب، تثور لكن لا بُد أن تبقى للأبد.
المؤلف في سطور:
ثامر عدنان شاكر
- مدرب متخصص في الإدارة الموقفية
• ماجستير إدارة أعمال تخصص قيادة – القيادة الموقفية
• تدريب متخصص في نظرية القيادة الموقفية
• عضو بالأكاديمية الأميركية للإدارة المالية
• عضو بالمؤسسة الأميركية للاستشارات الإدارية IMC
- درع تكريم تيدكس – مؤتمر الإبداع عن كتاب قزم.. عملاق ووطن، تحت مظلة مؤسسة الفكر العربي 2010.