دفع الموت إلى أكبر مدن سورية ليجعل منها فصلا آخر في رواية حية عن خذلان القوى الكبرى وتواطئها، وإجهاز نظام على أي معنى في شرعيته، بعد 5 سنوات عجاف من القتل الممنهج المتفيئ ظلال موسكو وطهران.
فرجة العالم على رسائلنا الحمراء باتت طقسا يستغرب خلو نشرات الأخبار منه. ترى في حلب وسواها من مدن منكوبة في هذا الجزء من الكرة الأرضية مادة للبث والتحليل ووعاء معرفة بالجغرافيا التي عادة ما توصف، كجارها التاريخ، بالمعقدة. يخرج الخبراء على شاشة أرهقتها الهياكل العظمية ليشيروا إلى مأزق تاريخي لم تستطع اجتماعات رسمية أن تجترح حلولا مقنعة لإنهائه. إنها، على الأرجح، تصيره ساحة لاختبار أوراق شتى ولاعبين جدد. المأساة السورية مهدت لإطلالة حرب باردة تخاط على الأشلاء، وفي سكرة البارود. الأصابع على الزناد، مذكرة بالنصف الثاني من القرن العشرين. حصار برلين (يونيو 1948) أشعل الشرارة وقسم العالم إلى معسكرين. حضر الجسر الجوي في تلك الأزمة. أقلعت طائرات تحمل شعارات 6 دول لإنقاذ برلين الغربية التي كانت آلاف الأطنان من الاحتياجات الأساسية تحط فيها يوميا. حلب، هذه المرة، برليننا الحزينة التي تبكينا ولا تتهاوى. الصمود حالة تمور في الأعماق وعلى ألسنة رافعي شارة النصر. شيخ حلبي أمام كاميرات الهواتف الذكية يوصل رسالته: "لغير الله لن نركع".
اللاعبون الكبار يحافظون على لياقة لغوية، ويولون التصريح أهمية بالغة. وأقنعة الهدنة في بقعة ما واجبة الاحترام، وفي أخرى محل أخذ ورد وفرصة لإجراء مكالمات هاتفية. الطرف الآخر ينتظر، يقف رابط الجأش ليعد تصريحا آخر، يقول فيه ببساطة: "ليس الآن، لم تنته المهمة بعد"، غدا يوم جديد. المجزرة على مقربة من الوعود، وليل حلب ليس مقمرا.
قبر هذه المدينة يتسع. الضوء خلف النوافذ يشح، والشوارع تنشر الفقد كريح سامة. الركام شاهد عيان والأمم المتحدة تقلق. يبلغ بها الأسى حد أن تخاف على محادثات السلام. لا تريد لشيء أن يهددها. منظمة أممية عابرة للألم. تأخذ في نزهاتها، الدامية أحيانا، فرق تمثيل جوالة لطالما خانها التعبير. تماما كما جاء على لسان اللجنة الدولية للصليب الأحمر التي حذرت من أن حلب "على شفا كارثة إنسانية". ما بال هذه الجملة؟ ما الذي ينقصها؟ الأرقام، ربما، أو الاعتذار عن الجهل الذي يظلم معايير دقيقة تسبغ الوصف الكارثي بعد تقص طويل عن هوية المنكوبين وبقاعهم ولون الدم المسال بفعل البراميل المتفجرة!
الإحصاء لعبة تذهل العالم عن رشده. تغيب أسماء الذاهبين إلى ربهم، تعد الأسرة البيضاء لجرحى لا فرادة لهم. إنهم وقود النشرة. حطب الشريط العاجل أسفل الشاشة، ما يتكرر، ما يظهر البلادة كفن له صناعه ومسوقوه، ما لن يعرف مع شديد الأسف كجريمة.
هذا المنطق يسكنه الصقيع. الواقع بشر من أحلام ومشاغل وذكريات. جدران المدارس كانت إيقاعا لأناشيد الصبية، وبياض المستشفيات اختلط بشهادة الميلاد وتراب المتفقين، ضمنا، على حصص البكاء. مآذن الأحياء أسكت ذهبها. ومازال الضمير المتندر على "عالميته" غير جازم بالكارثة.
بائس هذا العالم. ينخفض سقف إنسانيته كلما أصابه دوار رسم الخرائط الجديدة. كأن النقمة على السيدين مارك سايكس وجورج بيكو لم تعد كافية. فبعد مرور قرن على اتفاقهما، يبدو أن هناك من يحاول إراحتهما من هذه الصفحة الشقية عبر إلصاق الشؤم بسياسيين أكثر معاصرة، قد يكون احتراق أخضر حلب ويابسها فرصتهم المثلى لذيوع الصيت ودخول التاريخ من بوابة جحيمه.
الشيطان يقيم في التفاصيل وفي كثير من السياسة.. أيضا.