عندما حطت قدماي أرض أميركا قبل سنوات، ذهبت إلى إحدى المتاحف الصغيرة، وإذا بعبارة مكتوبة بالخط العريض: "نحن ما زلنا هنا، نحن نسهم بتنوعنا، نحن لدينا علاقة تاريخية ومستمرة مع هذه الأرض". وهي إشارة إلى إلغاء صفة الهنود الحمر ليصبحوا السكان الأصليين.

كنت أتساءل حينها: لماذا كانت أفلام "الكاوبوي" القديمة أو رعاة البقر تصور لنا وحشية "الهنود الحمر"، مع أنهم لم يكونوا هنودا ولا حمرا؟ لماذا كانوا يقدمون راعي البقر على أنه بطل؟ ما الذي تغير؟ هل السياسة الأميركية تغيرت، أم أن الثقافة تغيرت؟

في الواقع، إن البعد الثقافي أهم بكثير من البعد السياسي. أميركا، مثلا كانت نموذجا للعنصرية حتى بداية الستينات، كانت العنصرية فيها مقننة ضد السود في أماكن كثيرة، الآن ماذا حصل؟ كيف انتقلت من حالة عنصرية قاسية ظالمة، إلى حالة أصبح فيها رئيس الدولة الأميركية أسود. أنا هنا لا يهمني الجانب السياسي، ما يهمني هو البعد الثقافي، كيف استطاع شخص أسود وأسود غير أصيل، لأن السود الأميركان من الجيلين الخامس والسادس لا يعترفون بأوباما كونه أفروأميركي، أمه بيضاء وأبوه مهاجر، ولكن السؤال: كيف قبل الشعب الأميركي بالتصويت لأسود؟

هذا موضوع ثقافي، وليس سياسيا. في الأسبوع الماضي مثلا قررت وزارة الخزانة الأميركية، وضع صورة سيدة سوداء على العملة الورقية من فئة 20 دولارا، وهي الناشطة المناهضة للعبودية "هارييت توبمان" التي اشتهرت بشجاعتها وكفاحها من أجل تحرير العبيد وتهريبهم إلى كندا قبل اندلاع الحرب الأهلية الأميركية بين عامي 1861 و1865، عن طريق "قطار تحت الأرض"، انضمت بعد ذلك للعمل داخل جيش الاتحاد طاهيةً ثم ممرضة، وشاركت لاحقا في النضال من أجل حصول النساء على الحق في التصويت. انظروا هنا إلى البعد الثقافي، فقد أجري استطلاع للرأي العام حول وضع صورة لأحد رموز أميركا على ورقة الـ20 دولار، فكانت الأغلبية الساحقة قد أيدت عددا من الرموز النسائية في تاريخ أميركا كان من بينهن: الناشطة الحقوقية "إلينور روزفلت" قرينة الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والناشطة الأميركية من أصول إفريقية "روزا باركس" التي نالت شهرة واسعة عندما رفضت في أول ديسمبر عام 1955 التخلي عن مقعدها في حافلة نقل لشخص أبيض. لكن أغلب الأصوات ذهبت لصالح هارييت توبمان، والأمر لن يقتصر فقط على ورقة العشرين دولارا، بل سيمتد أيضا ليشمل فئتي "5 و10 دولارات"، وسيتم طرحها عام 2020 بمناسبة الاحتفال بالمئوية الأولى لحصول النساء على حقهن في التصويت.

إذن، يوجد تغيير ثقافي، وهذا التغيير لم ينزل "بالبراشوت". هناك جمعيات أهلية اشتغلت وجامعات، ومثقفون عملوا في جامعات ومدارس، وهناك إعلام. والإعلام بشكل عام في أميركا يميل إلى الأقليات، ولكن ساعد ذلك أن صورة الأسود الذي كان يظهر في الأفلام على أنه دائما مجرم وقاتل، أصبح الآن رئيسا وطبيبا.

هذه الصورة النمطية تغيرت، والتعليم ساعدها. نعم الصورة ليست وردية في أميركا، والدليل ما يحدث فيها بين فترة وأخرى من حوادث عنصرية ضحاياها من السود، وغالبا على أيدي الشرطة الاتحادية، لكن الصحيح أيضا أن كل واقعة إجرامية من هذا القبيل، تعقبها حركات احتجاج واسعة، يخرج فيها عشرات الآلاف من البيض والسود جنبا إلى جنب، وتغطية وسائل الإعلام، الكل يعلن رفضه، دون تبريرات جوفاء على طريقة "نحن" و"أنتم".

أخيرا أقول: وعي الشعوب ونضجها هما الفيصل في مناهضة الظلم والتمييز والعنصرية.