في أولى حلقات نقاش طلبة الدكتوراه في جامعتي البريطانية وبعد الترحيب بنا بدأ البروفيسور في استعراض قائمة المسموح والمرفوض في الكتابة الأكاديمية. تكلّم كثيرا عن عرض الأفكار بمنطقية والحفاظ على بنية الرسالة والانتقال من العام للخاص ثم العودة للعام مرة أخرى. توقف جون فجأة عن الكلام -وهذا لا يحدث عادةً- ثم قال مستطردا: "نصيحتي لك، اكتب شيئا إبداعيا بالتزامن مع رسالتك؛ كي لا تفقدك الكتابة الأكاديمية عقلك"! ضحك الجميع وكأن الرجل قال نكتة وانتقلنا للنقطة التالية!

ظل هذا السؤال يلحُّ علي: كيف يمكن للكتابة الأكاديمية المنطقية أن تفقدنا عقولنا في حين يفترض أن تعلّمنا التفكير!

الكتابة الأكاديمية تحتاج للمنطق، فعقولنا تلجأ لفهم أعمال الآخرين في مجالنا واستعراض أفكارهم ونتائجهم مرارا وتكرارا، بحثا عن فجوة علمية نصنع من خلالها إضافتنا في التخصص. وهي عملية طويلة ومستمرة على المشروع الخاص الذي ينتهي صاحبه منه بعد سنين من العمل الدؤوب والشاق قضاها متأرجحا بين مشاعر عدة، يتقدمها الأمل والطموح وأحيانا الغضب أو اليأس والتعايش. والكتابة الأكاديمية لها إطار لا يتجاوزه الباحث خصوصا في مرحلة الدكتوراه إلا بحدود يرضاها مشرفه؛ فالكاتب هنا مقيّد بجمهور محدود جدا يقرأ أعماله ويقيمها ويرعاها إلى أن تليق بالعرض على الغير في جلسة الاختبار أو "ال?اي?ا"، كما تسمى في بريطانيا.

وعلى الجانب الآخر، توجد الكتابة الإبداعية التي تسمح لروح الكاتب بالتحليق بين الحروف وصياغة الأفكار كما يريد! فهو سيِّد هذه اللغة وآمرها وناهيها وبيده تتحول لرواية أو قصيدة أو مجرد خاطرة عابرة! الكتابة الإبداعية وقودها مشاعر الإنسان وخبراته وعليه تكون الكتابة تدوينا وثيقا لمشاعر اللحظة للكاتب أو من حوله. ما يفعله كاتب النص بوعي -أو بدونه حتى- هو فتح النافذة المطلة على روحه على مصراعيها للغرباء والسماح لهم بالتجول داخل عقله وقلبه.

من وجهة نظري الشخصية، يلتقي هذان النوعان من الكتابة في مسألة جودة الانتباه للتفاصيل وتحليلها ونقلها ببساطة ممتنعة من عقل الكاتب لعقل المتلقّي، خبيرا كان أو غير ذلك؛ فالباحث الذي يملأ رسالته بالملاحظات السطحية أو سرد الأوصاف لن يجتاز ال?اي?ا (لو اجتاز ما قبلها) وكذلك الكاتب الذي لا يخبرك بشيء يستفز قناعاتك للاختلاف أو الاتفاق معه أو يجعلك تقول في نفسك شيئا مشابها لـ"كيف لم أنتبه لهذا من قبل" أو "يا الله هذا بالضبط ما أشعر به"، لن ينجح في وضع اسمه على قائمة كتّابك المفضلين.

الكتابة عقل يتنفس وفكرة تجول في رأسك تبحث عن منفذ أنيق. والقلم مبضع جرّاح لا يجدر أن يكون في يدٍ تستخفُّ به، فلربّما يثق بفكرتك عابر للسطور أو قارئ لم يبنِ هويته الناقدة بعد، وقد يعيش تحت وطأتها سنينا قبل أن يكتشف أنك أنت شخصيا راجعتها أو تراجعت عنها. لكن هل يعني هذا أن نخالف ما نشعر به أو نؤمن به؟ هل يعني أن نرتدي ثوبا قشيبا ونخفي قناعاتنا بسطور تتماهى مع الأغلبية؟ لن أجيب على هذين السؤالين لأن الواقع تكفَّل بالإجابة عليهما، فحتى بعد سنين من رحيل الكتّاب أو الباحثين يذهب الزبد جفاء ويمكث في الأرض ما ينفع الناس. كل مدّعٍ لما ليس فيه تكشفه الأيام وكل من يخلص النصح في طرح رأيه أو السرد في أبحاثه، مقالاته أو رواياته، كل شاعرٍ يستفزّك من مقعدك لتصفق لنصِّه وحيدا بعد منتصف الليل سيقدّر ولو بعد رحيله، فالحرف ذاكرة لا تموت.

جس الطبيب خافقي

وقال لي: هل هاهنا الألم؟

قلت له: نعم

فشق بالمشرط جيب معطفي

وأخرج القلم!

هز الطبيب رأسه.. ومال وابتسم

وقال لي: ليس سوى قلم

فقلت: لا يا سيدي

هذا يد.. وفم

رصاصة.. ودم

وتهمة سافرة .. تمشي بلا قدم.

أحمد مطر