نسمع كثيرا هذا البيت للمتنبي: "ذو العقل يشقى في النعيم بعقله/ وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم". كما تروى المقولة التالية عن أبي سفيان الثوري: "من يزدد علما يزدد وجعا ولو لم أعلم لكان أيسر لحزني". كما ينسب للفرزدق قوله: "إذا قلّ عقل المرء قلّت همومهُ/ ومن لم يكن ذا مُقلَة كيف يُبصرُ؟!".
هذه المقولات وغيرها كثير تشير إلى علاقة طردية بين الجهل والسعادة. يبدو لي أن الصورة كالتالي: العلم يفتح آفاق الإنسان ويساعده على أن يرى ما لم يكن يراه في السابق. هذا يعني رؤية المزيد من المشاكل والآلام في هذا العالم مما يرفع من احتمالات شقاء الإنسان. في المقابل "الجاهل" وبسبب رؤيته المحدودة فإنه يبقى محجوبا عن هذه المشاكل والآلام مما يحميه من الشقاء الناتج عنها ويرفع من احتمالات سعادته. هذه هذي الصورة المتداولة ولكنني أعتقد أنها غير صحيحة وناتجة عن تصورات نمطية غير دقيقة للبشر الذين عادة ما ينظر لهم "المثقفون" أو "المتعلمون" على أنهم جهلة أو عامة. هذه الصور النمطية ناتجة كذلك عن تصورات غير دقيقة للتجربة الإنسانية وعلاقتها بالسعادة. الصورة النمطية عند المثقفين عن العامة أن حياتهم محدودة لأنهم لا يعرفون ما يعرفه أهل المعرفة. هذه المحدودية تحمي أصحابها من رؤية ما يراه أهل المعرفة من المشاكل السياسية والاقتصادية والأخلاقية، وبالتالي تخفف من احتمالات تعاستهم. هذه برأيي صورة من الخارج لا أكثر ونظرة يصح أن نصفها بنظرة من البرج العالي. أي أنها تنظر لحياة "العامة" من عين غيرهم وتحكم عليهم من الخارج. هذه مشكلة جوهرية خصوصا حين نفكر في السعادة. السعادة حالة شعورية شخصية ذاتية لا يصح فيها التقييم الخارجي. بمعنى أن حكم الآخرين بأن فلانا سعيد لا معنى له إذا لم يكن ذلك الشخص يشعر بالسعادة. لذا فإن أحكام "أهل المعرفة" على "العامة" بأنهم سعداء لا معنى لها إذا لم نأخذ بعين الاعتبار رؤية هؤلاء الناس "العامة" عن سعادتهم. الواقع والملاحظات عن الناس في التاريخ تقول إن الحزن جزء أساسي من تجربة البشر جميعا، وأن الصورة التي يرسمها "أهل المعرفة" لـ"العامة" بأنهم يسبحون في أنهار السعادة لا صحة لها. ربما لا يحزن هؤلاء الناس لذات الأسباب التي يحزن لها المثقف ولكن هذا لا يعني أنهم يحزنون أو أنهم يحزنون أقل من غيرهم. هنا يبدو "أهل المعرفة" في صورة المنغلق على ذاته، فلا حزن إلا الحزن الذي يشبه حزنه ولا تعاسة إلا ما يطابق تعاسته. هذا الانغلاق يمكن توضيحه بأمثلة بسيطة كالتالي:
(س) من الناس الذين تنطبق عليهم الصورة النمطية للمثقفين، أي أنه لا يشغل باله بالقضايا العامة أو أنه متبن للتصورات السائدة ولا يشغل نفسه بالتفكير النقدي ولا بالمساءلة مما يريح باله من هذا الجانب. لكن صاحبنا (س) طمّاع وحسود وهذا الطمع والحسد يحيل حياته إلى جحيم لا يطاق. في هذا المشهد تتبخر كل الصور النمطية عن راحة بال وسعادة "العوام" أو "الجهلة". الحسد والطمع مشكلتان لا يحمي منهما الجهل ولا التخلف. السعادة في المقابل لا تأبه لمعايير المثقفين ولا لأسبابهم. التعاسة قد تنتج عن أسباب متعددة ولا يهم فيها أي حكم خارجي على هذا السبب أو ذاك من الخارج. الغيرة التي تسيطر على العاشق وتتسبب في تعاسته عدو للسعادة، مهما قلنا عنها إنها سبب تافه أو بسيط. الصورة النمطية عن حياة العامة أنها حياة بسيطة غير دقيقة، لأنه لا توجد حياة بسيطة على هذه الأرض. كل تجربة بشرية معقدة ومركبة. نلاحظ مثلا حياة الأطفال السابقة على تعريفات المعرفة والجهل هي حياة في غاية التركيب والتعقيد لا تزال تحيّر علماء الطفولة. هذا التعقيد والتركيب يستمر ويمتد مع امتداد الحياة. هذا التعقيد والتركيب قد يقود الإنسان إلى تصورات عن فراغ حياته كما نجد عند بعض المنتحرين لكن هذا صحيح فقط في الأحكام الذاتية لا الخارجية. كل إنسان جزء من الشبكة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية في تجربته المعيشية ولا مجال للهروب منها. مهما تصور "أهل المعرفة" الإنسان البسيط فإن حياته لا تقل تعقيدا عن حياتهم على الأقل من وجهة نظره فهو مشغول بقضايا مهمة وأساسية في حياته قد تنحصر في تربية أطفاله ولكن هذه التربية بالنسبة له تعادل أهمية وتعقيد إدارة العالم. تفاصيل هذه المهمة تؤثر بشكل عميق في سعادته يعادل أو ربما يزيد عن تأثير القضايا العالمية والشعبية في حياة "المفكر" أو "المثقف". نعلم تماما أن "أهل المعرفة" رغم الصور النمطية التي يحبون الظهور بها كمهتمين بالقضايا الحقيقية نجد أن كثيرا منهم لم ينجح في تجاوز "تفاهات الحياة" من الحسد والغيرة من الأقران والطمع في المال والشهرة والمنصب والانتصار على الخصوم. نعلم تماما الدعم الذي قدمه عدد كبير من "أهل المعرفة" من مثقفين ورجال دين وشعراء للظلم طمعا في مكاسب ذاتية.
هذه المناقشة تسعى لنقد المقولات المتداولة التي تربط السعادة بالجهل والتعاسة بالمعرفة. هذه المقولات تكشف علاقة ذات "أهل المعرفة" بالآخر "العامي أو الجاهل". التصور النمطي عن الآخر مشغول بالذات ويعجز عن رؤية الآخر بشكل أعمق. المثقف الذي يشاهد جموع الناس من شرفة سكنه ويغبطهم على السلوان والدعة مشغول بذاته ولا يرى تعقيدا ولا حزنا إلا ما وافقه. سأحاول في المقالة القادمة تسليط مزيد من التحليل عن انغلاق "أهل المعرفة" على ذواتهم في أحكامهم على الآخر.