ترى حين تظهر بيننا فتوى ما، تتعلق بشأن اجتماعي عام، فهل المخاطب فيها هو الإنسان السعودي رجلا كان أو امرأة، أم أن المخاطب هو المسلم والمسلمة؟ غالبا ما تكون جميع الفتاوى موجهة للمسلم وللمسلمة، تحت جمل وعبارات مثل: لا يجوز للمسلم...، لا يجوز للمسلمة...، وهكذا، مما يعني أن الحكم الفقهي لا يقيم وفق حدود جغرافية ولا وفق رؤية مرتبطة بالواقع، أو مستوعبة له، ذلك أن الذهنية الفقهية الحالية قادمة في أغلبها من المتون ومن المحفوظات الفقهية، ولا علاقة لها بإيقاع الحياة السعودية ولا بتجلياتها ولا باحتياجاتها، إنها ليست أكثر من دروس فقهية جاهزة، حين ينطق فيها (الشيخ) بحكم ما، فهو غالبا ما يبتعد عن قيمة العلم بالمعنى الاستنباطي والمعرفي، إلى كونه مجرد وسيلة لنقل المعلومة، وإعلانها فقط.
ورط (الشيخ) التقليدي نفسه وخطابه كثيرا مع السعوديين، حتى بات يمثل الصوت المعارض المنتظر أمام كل ما هو جديد في الحياة اليومية، دون أن ينتج أية أحكام ترتبط برغبته التأثير في حياة الناس، فإذا كان هدف الفقيه هو التأثير في حياة الناس، فأين هو ذلك التأثير الآن؟ فالمعادلة لا تخرج عن كوننا كمجتمع نستقبل أمرا جديدا، فكرة كانت أو منتجا أو أداة، فيتفاعل معه المجتمع كما تفاعل معه العالم، ثم يدلي الشيخ بدلوه فيكون محرِما وناهيا ومحذرا وداعيا للتحوط والحذر، ثم يترك الناس ما يقوله الشيخ وراء ظهورهم وينطلقون باتجاه حياتهم.
كان يفترض بالوعي الفقهي أن يلاحظ وهو يعدد خسائره وانصراف الناس عنه أهمية أن يجدد خطابه وقيمة الفقه لديه، ذلك أننا كمسلمين لا نرحب بهذا الجفاء القائم بين الناس والفقيه، إلا أن الواقع يفرض علينا تحميل الفقه الحالي مسؤولية هذا التراجع وهذا الارتباك الذي يصيبه كلما أبدى رأيه في مسألة جديدة. إلى الدرجة التي يمكن القول معها بأن وعي الناس بمختلف طبقاتهم يوشك أن يكون أكثر تقدما وانطلاقا من الوعي الفقهي السائد.
التجربة على امتداد التاريخ السعودي تشير إلى أن الدولة أيضا عاشت ذات الشراكة مع الناس في عملية المواجهة، فالدولة تدرك أنها دولة حديثة ومتصلة بعالم حديث، وهي دولة مؤسسات وأنظمة وبناء وتطلع مستقبلي، ولقد كان بإمكان (الشيخ) التقليدي أن يقدم دورا إيجابيا أكثر فعالية من الممانعة والرفض المستمر، وحين كانت الصورة الوحيدة للمثقف وصاحب الرأي محصورة في الفقيه والواعظ بسبب تدني مستوى التعليم وبسبب كون المعرفة في تلك الفترة ذات جانب أحادي يتمثل في المعرفة الدينية، حرصت الدولة على أن تدير العلاقة بين انطلاقتها كدولة وبين الممانعات الفقهية بنوع من الود والتلطف، والأمل في أن يخرج من الفقهاء جيل يستوعب الواقع ويغير خطابه، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث، وحتى الفقهاء الذين يقدمون معرفة فقهية جديدة غالبا ما يجدون أنفسهم في مواجهة مع سياق فقه تقليدي أحادي يحولهم إلى خصوم لا يقبل النقاش معهم ولا جدالهم، وهو ما كرس أحادية هذا الخطاب الفقهي السائد وجعله يعيش عزلة واسعة عن الناس والحياة والمجتمع.
لقد واجهت الدولة بكل شجاعة أفكار التحريم على أكثر من مستوى، ولم تكن مواجهة حادة بل أخذت بإدارة المشهد انطلاقا من التعامل مع كثير من الفتاوى على أنها آراء، ومنحت الناس حق الاختيار، وإلا فماذا لو طبقت الدولة مثلا فتوى تحريم جوالات الكاميرا والسفر للخارج وتحية العلم والقنوات الفضائية؟ لا بد أن المشهد كان سينجلي عن واقع مضحك وغريب للغاية، وخاصة أن الفقه التقليدي لن تتوقف لديه دائرة التحريم عند حد معين، فهو إلى الآن لا يحمل موقفا واضحا من أمور تمثل جانبا من شخصية الدولة كدولة حديثة، وكثير من الفقهاء التقليديين الآن هم صامتون فقط عن قضايا كالولاء والبراء وحكم الانضمام إلى المنظمات الدولية وتوقيع الاتفاقيات ودعوات الحوار الحضاري، وإقامة العلاقات مع الدول (الكافرة) وغيرها، وإلا ما أسهل امتحانهم عن طريق سؤال يوجه إليهم وما أقرب توقعاتنا للفتوى التي ستصدر عن أي من تلك القضايا.
هذا الواقع يثبت لنا الآن وبكل جلاء أننا في المملكة لا نعيش أزمة قدرات ولا موارد ولا كوادر بشرية ولا إرادة سياسية، ولكن العامل الأبرز الذي ظل يعيق تطلعنا على المستوى النظري على الأقل، هو الرؤية التي لم تستوعب الدولة ولا حياة الدولة، فالدولة ليست مجرد مؤسسات ولكنها منظومة من الأفكار والرؤى، وأن أكثر ما يمثل خطرا مستقبليا هو أن نجد من يعمل من داخل الدولة وفي ذات الوقت لم يستوعب إلى الآن فكرة الدولة ورؤيتها، ولذلك فهو مستعد للتضحية بأنظمة ورؤى الدولة وأهدافها مقابل مخاوفه الفقهية والتقليدية، خاصة مع التحول الذي طال الفقه التقليدي وأخرجه من كونه صياغة للحكم المبني على الدليل ليتحول إلى أيديولوجيا سافرة، لا تقبل الاختلاف والتنوع.
لقد حافظت المملكة على مكوناتها الثقافية التي يمثل الدين أحد أركانها، وعملت على تطويرها، وبمعادلة واعية، إلا أن أبرز الممانعات التي واجهتها كانت عبارة عن حزمة الفتاوى والأحكام الفقهية البعيدة عن الزمان والمكان، سوف نجد – إذا ما استمر هذا النوع من الفتاوى – أن الحياة السعودية برمتها عبارة عن مخالفة شرعية كبرى.