من يتابع ما يجري في العراق من عراك سياسي، وتطاحن حزبي، واعتصامات ومظاهرات وتهديد باستقالات، يظن للوهلة الأولى أن هذا البلد يعيش في مرحلة استقرار وأمن ورفاه يجعل النخب تتسلى وتتلهى وتنشغل بمثل هذه الأمور، وليس في مواجهة عدو يتربص به الدوائر، ويجثم على ما يعادل ثلث مساحة العراق، ويهدد الثلثين الباقيين بالويل والثبور وعظائم الأمور، بما في ذلك تهديد العاصمة بغداد، حيث يتخندق سياسيوها ويتحصنون فيما يعرف بالمنطقة الخضراء، وكأنهم لا يدركون خطورة ما يجري على أرضهم، وأنهم في مواجهة مع عدو ليس كمثل الأعداء التقليديين الذين يملكون جيوشا نظامية في البر والبحر والجو، تحاربهم ويحاربونك وجهاً لوجه، وتنتصر عليهم أو ينتصرون عليك، تهادنهم ويهادنونك إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، وإنما يواجهون من هم أشبه ما يكونون بالمردة والعفاريت الذين ما إن تطردهم من مكان حتى يظهروا عليك في مكان آخر بسياراتهم الانتحارية، وأحزمتهم الناسفة، وأنفسهم المستميتة في سبيل بلوغ الهدف الذي انطلقوا من أجله حتى يصلوا إليه، أو يموتوا دونه. كل هذا الخطر الداهم الذي يتهدد العراق اليوم، والاستنفار العالمي الذي انطلق لمساعدة حكومته، وطيران التحالف الدولي الذي يدك معاقل العدو كل يوم، والعمليات الجوية المنتقاة بعناية لاصطياد بعض رموز داعش وقتلهم من قبل الطيران الأميركي، وجيش العراق وحشوده العشائرية وغير العشائرية التي تقاتل داعش في الأنبار، وصلاح الدين، وتتهيأ مع ميليشيات البيشمركة الكردية للزحف إلى الموصل وتحريرها من أيديهم.. كل ذلك وكأن شيئا لم يكن عند السياسيين العراقيين الذين لا يهمهم إلا مكاسبهم السياسية والحزبية، وتقاسم السلطة، أو بالأحرى إقصاء بعضهم بعضا، وتحقيق مغانم شخصية حتى ولو على حساب العراق وأمنه واستقراره وشقاء البؤساء من أهله، ولم يتعلموا من دروس اعتصامات الأنبار في زمن نوري المالكي التي كانت فرصة ذهبية لداعش للدخول في جماعتهم، والتسلل من أوساطهم، وتصيّد غفلاتهم التي أفضت إلى احتلال الموصل، ثم الأنبار، وتقتيل أهلها وتشريدهم والعبث بكل شيء وصل إلى أيديهم.
هذه الحالة من الغفلة والممارسات السياسية غير المسؤولة عند السياسيين العراقيين ليست وليدة الساعة، وإنما ظهرت منذ اليوم الأول الذي وضعوا فيه أقدامهم على أرض العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين في مارس 2003، حينما ظهر مصطلح المحاصصة لأول مرة في قاموسنا العربي اللغوي مع تشكيل أول حكومة مؤقتة للعراق. ومع أنني لست ضد المحاصصة، وأتفهمها جيدا، لأن الديموقراطيات التي تقوم على التكتلات والأحزاب المتآلفة لا بد أن تكون فيها محاصصة، رأينا هذا على سبيل المثال لا الحصر في لبنان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا و(إسرائيل)، وحتى في بريطانيا تجد في كل حزب من حزبيها الرئيسيين (العمال والمحافظين) تكتلات: يمين ويسار ووسط، ولكل كتلة أو فئة من فئات هذا التصنيف حصته في الوزارة البريطانية، إلا أن المحاصصة والتفكير في المصالح الفردية أو الفئوية التي ظهرت في أوساط السياسيين العراقيين العائدين من الشتات حينما شكلوا أول حكومة مؤقتة برئاسة غازي الياور، وما أعقب ذلك من حكومات مؤقتة قبل أن تستقر الأوضاع في العراق لم يحصل -في حدود علمي- إلا في ذلك البلد البائس الذي عانى لسنوات طويلة من الحكم المستبد في زمن الشيوعيين، ثم القوميين العرب، ثم البعثيين الذين توالوا على حكمه بعد الإطاحة بالملكية الدستورية على يد عبدالكريم قاسم في يوليو 1958.
وكان من المفترض أن يضعوا مصلحة بلدهم فوق جميع المصالح الذاتية، وأن ينتظروا حتى تستقر أوضاعه، ويسترد أنفاسه، ويتعافى مما عاناه من سنوات الظلم والاستبداد والطغيان في عهد جمهورياته السابقة.
إلا أن الذي حدث لم يكن ليتصوره عاقل، ذلك أنه بمجرد تشكيل الحكومات المنتخبة بعد عودة هؤلاء إذا بهم وبالتنظيمات المرادفة لهم يطالبون برحيل المحتل الأميركي الذي جاؤوا بالأمس القريب على دباباته، فلما رحل وأحسوا بالفراغ الذي تركه، وعدم مقدرتهم على حماية أنفسهم إذا بهم يطالبون بعودته وحمايته، فعاد على هيئة خبراء ومستشارين، ومدربين لجيشهم الحائر، ثم تضاعفت أعدادهم المرة تلو الأخرى، وكان أثرهم واضحا في حماية بغداد، وتحرير كثير من الأراضي المحتلة في صلاح الدين والأنبار، ونأمل أن تتضافر الجهود لنرى أرض العراق جميعها وقد تحررت.
ثم تبرز ظاهرة مقتدى الصدر على الساحة العراقية، وهو ما كنا لنسمع عنه من قبل في عهد الرئيس صدام حسين بعد مقتل والده محمد محمد صادق الصدر في عام 1999، فقد رأينا مقتدى على مدى 13 عاما بعد سقوط نظام صدام وبروز ظاهرته، فمرة نراه يشكل جيشا، ومرة يحله، ومرة يحارب، وأخرى يوقف الحرب، ويدعو إلى السلام، ومرة يتظاهر، ومرة يعتصم ويطالب بتشكيل حكومة تكنوقراط، ولا يعرف أحد حتى الآن ما توجهاته على وجه التحديد؟ وماذا يريد؟ فهو ليس إلى هؤلاء ولا إلى أولئك، وإنما هو مرتهن إلى وَسَاوِسه، وتقلبات مزاجه.
ألم يفكر مقتدى الصدر الذي يطالب بتشكيل حكومة تكنوقراط في ظل هذه الأوضاع الأمنية الشائكة في بلده أنه ليس من السهل تشكيل تلك الحكومة وفي العراق ما فيه من تجاذبات سياسية وطائفية وعشائرية ومحاصصة حزبية؟ ألم يتذكر مقتدى الصدر أن بعض الوزارات السيادية في حكومة نوري المالكي ظلت مدة ليست بالقصيرة خالية من الوزراء، ويتولاها نواب من جهته؟ لأنه لم يستطع في ظل تجاذبات مشابهة أن يحصل على توافق أو اتفاق على شخوص من يتولونها.
إن ما نعرفه ويعرفه كل متابع لأحداث الساعة في كل حكومات الدول التي تشعر بالمسؤولية على مستوى العالم أنها في حالة الحروب تنسى خلافاتها، وتتحد لمواجهة أعدائها، وبعضها تشكل حكومات حرب صغرى، وقد يعلن بعضها حالات طوارئ، إلا في العراق التي لا تشتد خلافات سياسييها إلا في الأزمات. والسؤال هو: لمصلحة من ما يجري في العراق؟ والجواب ببساطة وبوضوح تام لمصلحة داعش، ثم لمصلحة إيران، حتى يظل العراق ضعيفا ومعتمدا عليها، يأتمر بأمرها، وينصاع لتوجيهاتها في كل شأن من شؤونه الداخلية والخارجية.