في ثنايا نشوتي بالاحتفال بين مئات الطلاب في حفل تخريج جامعتي، جاء إلي بإحساسه الصحافي ليسألني: ماذا يمكن أن تقول لكل هؤلاء الشباب وأنت تقف في هذه الصورة متوسطاً نجلك الأكبر ونجل شقيقك، وهما الآن طبيبان على أعتاب الحياة العملية؟ أجبته فوراً: هي قصة وطن، ولا شيء لدي لأضيفه بعد تلك الكلمة التي ألقاها راعي الحفل الأمير فيصل بن خالد بن عبدالعزيز، وهي بكل الاختصار: قصة وطن أرجو ألا تختطفه عصابات الضلال والإرجاف من هذه العيون الشابة على أبواب المستقبل.
ست سنوات طويلة وشاقة متعبة من مشواري الشخصي مع مازن وعبدالإله، وأنا مدرك أن كل ليلة منها تحوِّل على الأقل شعرة سوداء من رأسي إلى البياض ولكن: عليهما أن يدركا أيضاً أن هذا الوطن العملاق قد استثمر، وفيهما وحدهما، ما لا يقل عن مليوني ريال كي يصلا إلى مسيرة التخرج المدهشة، وهذا رقم خرافي في حياة مجرد شابين لا تدفعه إلا الأوطان الرؤوم التي تؤمن بحق أبنائها في الحياة.
وأنا اليوم لا أكتب أبداً أبداً قصة شخصية خاصة. أنا أكتب قصة آلاف الأسر التي عاشت مع أولادها هاجس اختطاف وطن، وهي ذات صلب كلمة سمو الأمير في نهاية الاحتفال. الوطن بطاقة هوية وولاء وانتماء ولن يكون على الإطلاق حكاية مهنة أو وظيفة، ومع مازن أو عبدالإله عشت عشرات ليالي النقاشات الحادة الطويلة. كنت أحاول معهما تهذيب طيش الاندفاع لأن الوطن لدي قيمة لا سلعة. كنت مؤمنا أن من حقهما كامل النقد في كل شيء كشابين يأتيان من العصر الجديد، لكن الوطن لا بد أن يبقى مقدساً وسطراً أحمر وسقفاً فوقياً لا يمكن للحوار أن يتجاوزه. مساء ما قبل البارحة، مشيت مع مازن مسيرة تخرجه من الجامعة بعد ست سنوات طويلة، كانت بها مئات الليالي التي تلقيت منها آلاف الأسئلة ومن فمه. عشرون عاما من العذاب الأسري لأب يخشى على ابنه أن تأخذه الخطابات الجدلية ثم تسرقه من قيمة وطنه. أكثر من هذا كان مازن في السادسة الابتدائية عندما كان يحذره معلم من "الاحتكاك" بأبيه. لم يكن هذا الطفل الصغير يومها يدرك ماذا يعني مصطلح الاحتكاك لكنه روى القصة بعد سنين. اليوم تجاوزنا تلك القصة إلى هاجس اختطاف وطن، وهذا ما أقوله لكل تلك الوجوه البيضاء في تلك المسيرة.