المثل أعلاه يستخدم لمن يبالغ في التهيؤ للأمر قبل وقوعه، فيتعامل مع ما يتوقع أن يكون على أنه كائن، وهو مثل شائع عند البدو تحديدا، قيل إن مناسبته أن رجلا على ناقته رأى أرنبا في طريقه، وقبل أن يصطادها قام بتكسير شداد الناقة وأوقد فيه النار "والشداد هو ما يوضع فوق ظهر الناقة للركوب عليه، وعادة يكون مصنوعا من الخشب"، وإني أخشى أن يكون هذا المثل قد انطبق علينا في تعاطينا مع رؤية السعودية 2030، فمعظم الحديث الدائر الآن يقوم على أساس الاغتباط والمديح لا النقد والتحليل، مع أن الرؤية نفسها تقوم على أساس الشفافية والوضوح والمحاسبة ومحاربة الفساد و"الاصطدام مع الشارع"، كما عبر عن ذلك الأمير محمد بن سلمان، وهو اصطدام بأجمل معانيه؛ ذلك أنه يضع الأشياء على طاولة النقد والتحليل والتمحيص، ولا أعرف شيئا هو أنفع للرؤى والأفكار من أن تصطرع في الشارع فتتساقط واحدة واحدة، ولا يبقى منها إلا الأقدر والأقوى، وما كان فوق العادة، فالأمير محمد بن سلمان، ظهر في المقابلة بمظهر الواثق من نفسه القادر على طرح أفكاره ورؤاه بشكل متزن وواضح، فكانت محصلتنا بعد اللقاء أفكارا عظيمة هي في غاية البساطة والوضوح، بما جعل من الإنسان العادي قادرا على أن يقول فيها رأيه، لذا فإنه من الخطأ أن يكون الحديث عن رؤية السعودية 2030 بلغة الثناء والاغتباط، لأن كل إنسان له رأيه الخاص، ولديه المقدرة على فلترة الكلام وتحليله وتمييزه، فإنه وعلى الرغم من الإجماع أو شبه الإجماع على تميز الأمير ووضوح رؤيته وطرحه، إلا أن كثيرين -ومنهم كاتب هذه السطور- قد توقفوا عند معلومة جانبية أدلى بها الأمير محمد بن سلمان في حديثه للزميل تركي الدخيل حين قال: "الدعم هو لأصحاب الدخل المتوسط وما دون المتوسط، هذولا اللي المفروض يذهب إليهم الدعم ويشكلون 30%، لكن 70% أنا وأنت"، وأعتقد أن هذه المعلومة بحاجة إلى إعادة نظر، حتى لا تُبنَى عليها قرارات خاطئة، لأن الخطأ في معلومة من هذا النوع؛ يزيد من احتمال الخطأ فيما هو أعقد منها، فأي عملية ربط بين متوسط رواتب الموظفين في السعودية "7200 ريال للقطاع الحكومي، 4800 ريال للقطاع الخاص"، وبين دراسات موثقة حددت خط الفقر في السعودية للأسرة المكونة من خمسة أفراد بـ"8926" ريالا، ستجعلنا نتعامل مع المعلومة السابقة بمنطق الشك، كما أن مخالطة الناس العاديين وتفحص وجوههم، واستنطاق شفاههم، تشعرنا بوجود عدد كبير من الأسر ترزح تحت هذا الخط، أرجو أن تلاحظوا أن الحديث هنا عن خط الفقر لا عن الطبقة المتوسطة وما دونها!، كما أن من المآخذ على الرؤية أنها ركزت على الجانب السياسي والاقتصادي، بينما ظل الحديث عن الجانب الفكري بدرجة أقل، مع أن الإصلاح الفكري شرط لازم وغير كاف لحدوث أي عملية تغيير، وإنه مع إيماننا بأهمية إبراز الرؤى والأفكار عبر وسائل الإعلام، وأن القائد لا يمكن أن ينجح إذا ظلت خططه ومنجزاته في طَي الكتمان، إلا أن هناك فارقا كبيرا بين التعزيز والتخدير، فنحن مطالبون بالتفاؤل الواعي الذي لا يصل إلى درجة المبالغة والتعامي عن رؤية مشكلاتنا وأخطائنا، وتقييمها بشكل مستمر، كما أن الاحتفاء بالنجاح قبل حدوثه قد يفقدنا الرغبة في تحقيقه، فإن هنالك حقيقة تقول: إن التطلع إلى الشيء لا امتلاكه بالفعل هو الذي يولد في الإنسان الاندفاع الذي قد يصل إلى درجة التضحية بالنفس، وأن الأشياء التي لم تكن هي في الحقيقة أعظم وأقوى من الأشياء التي كانت.
لا شك أن ما قاله الأمير محمد بن سلمان، في لقائه عبر قناة العربية، أثناء حديثه عن رؤية السعودية 2030، جميلٌ ومفرح واستثنائي، ولعلي لا أبالغ إن قلت: إنه بداية التعارف الحقيقي بين الأمير والناس، ولا ريب أن طابع هذا اللقاء سيترك في قلوب الناس انطباعا من الصعب نسيانه أو محو أثره، فهو قد كشف لنا أننا أمام شخصية استثنائية، يمثل خطابها نقطة تحول واضح في خطابنا الحكومي، جعلته يعتمد على نقد الذات من الداخل، والتحول من حالة الجمود إلى الحركة بخطوات واثقة محسوبة، خلافا لما اعتدنا عليه من الرهبة عند الحديث عن مشكلاتنا، والإلقاء بها دوما على طرف خارجي، ومن حيث مهابة التغيير والخوف من أن نخسر مكتسباتنا، فالأمير قد اتضح من خلال طرحه، إدراكه أن أسلوب الرسالة لا يقل أهمية عن مضمونها، وأن لكل مرحلة مقاييسها الخاصة، فما كان مقبولا في الماضي لم يعد مقبولا في هذا الوقت، فهو يرى صعوبة إخفاء المعلومات أو تجاهل الحقائق، ولذلك فإن نقده طال جهات عليا كانت محصنة ضد النقد، مثل وزارة الدفاع مع أنه يأتي على رأسها، حين اعترف بوجود تناقض كبير بين أن يكون جيشنا في المركز الثالث من حيث الإنفاق العسكري وفي العشرينات من حيث التقييم!.