لم يكن مصطلح "التحول" أو "التغيير" وما يشبهما من دلالات الانتقال من وضع اجتماعي ثقافي تاريخي إلى آخر، مصطلحاً إيجابياً على وجه العموم في الخطاب السعودي الرسمي، وفي صداه وتجاوباته المترددة في الخطاب الشعبي. وكانت الجملة الشعارية: "الله لا يغيِّر علينا" التي يمكن أن نلاحظ التلفظ بها من قبل أصحاب رؤوس الأموال من العقاريين وملاك الشركات والمؤسسات التجارية الضخمة ومن قبل الفئات المحدودة الدّخْل على حد سواء، كانت المفتاح الدلالي الأوضح على تعمق المعنى السلبي وعمومه تجاه التحول والتغيير. بل يمكن مجاوزة ذلك إلى رصد السلبية تجاه مصطلحات من قبيل: التطور والتقدم والحداثة والتجديد والعصرنة والنهضة... إلخ ومقدار التشويه الذي أصابها، والتعقيم الاجتماعي ضدها، في هذا السياق نفسه. والذين يتحدثون عنها بإيجابية وبلغة تبشيرية هم فئة نخبوية محدودة، وهم موضع تشويه ولمز وتصنيف من قبل تيارات ذات شعبية تقصد عزلهم عن دائرة التأثير في الفكر والخطاب.

لكن مصطلح التحول دخل إلى التداول في الخطاب السعودي في 25 أبريل 2016، اليوم الذي أعلن فيه سمو ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ضمن شرحه لـ"رؤية المملكة 2030" برنامج التحول الوطني، بوصفه أول برنامج تنفيذي لتحقيق أهداف الرؤية؛ فأصبح "التحول" قيمة إيجابية رسمياً، وهي قيمة تضفي على تداوله شرعية وتبرره وتفسح له الخطاب. وهذا فعل لا يستطيعه إلا السياسي، وفي لحظة متوهجة تاريخياً به، هي اللحظة نفسها التي اهتبلها سياسيون أفذاذ، فغدوا بأسمائهم بصمة في تاريخ نهضة بلدانهم، وكان يمكن لهذه البلدان أن تبقى من غيرهم في عداد الدول المتخلفة. والمعنى الذي يفسر قدرة السياسي على إضفاء قيمة إيجابية على التحول ودَفْع المجتمع إليه، قائم في طبيعة الأسباب التي أضفت السلبية على التحول وعقّمت المجتمع ضده؛ أعني مواجهة تيار المصالح الخاصة الذي يغدو التحول تهديداً له، ورواسب التخلف والعادة والجمود والمألوفية التي يصبح التحول عدواناً عليها ومواجهة للمجهول وإثارة للمخاوف. والثقافة المروِّجة لوعي من هذا القبيل تستمد– فيما تستمد- تبريراً زائفاً لمصالحها ومخاوفها من الدين، بإضفاء طابع مقدس على الجمود والتخلف والتقليد.

هذا يعني أن التحول اكتساب لمعرفة جديدة؛ فالمعرفة التي لا تتغير ليست معرفة، وولادةٌ لمسؤولية الفرد؛ فالمجتمع المتخشب والجامد مجتمع بلا أفراد. إن التحول – إذن- قيمةُ تجدُّد وحدوث واستمرارية، وقيمةُ حيوية ويقظة ومرونة: قيمةُ تقدُّم واستنهاض. ولذلك فهو حسبان للمستقبل لا للماضي؛ فأن يكون المستقبل يعني أن يَحْدث تغيُّرٌ وتحوُّل، وألا يكون المستقبل يعني ألا يَحْدث تغيرٌ وتحول. ومن هنا نفهم المعنى الإيجابي في منظومة الدلالة على التحول من زاوية الضرورة والاضطرار: ضرورة البقاء واضطرار الصراع والمنافسة في سبيله؛ وأحد وجوه الصراع الأكثر عنتاً صراع الذات مع ذاتها، وهو جهاد النفس الذي سماه الرسول صلى الله عليه وسلم: "الجهاد الأكبر". وهو ليس صراع فرد مع ذاته، بل صراع مجتمع في سبيل اكتساب مزيد من الفرص العملية لأجياله، والعدالة بين أبنائه، وضمان مقومات الحياة الكريمة لهم في قادم الزمن. وإذا سلَّمنا بذلك، كان علينا أن نقول: نعم للتحول الذي يفتح لنا أبواب المستقبل، ويصنع لنا حياة جديدة لا يهددها جفاف الموارد الطبيعية، ولا تقلقها ضغائن الفئوية والاحتكار بأي معنى.

لا يرتبط منظور التحول - ما دام الأمر كذلك - بالمعالجة لعلة طارئة أو جزئية: لا يرتبط –مثلاً- بانخفاض أسعار البترول، ولا بالتحسب لنفاد مخزونه؛ فمثل هاتين العلتين المرتبطتين باعتماد الاقتصاد السعودي على البترول، جزءٌ من علل الواقع الذي يسعى التحول إلى مجاوزته، ومنذ ظهور البترول والأصوات تظهر تباعاً منادية بتقليل الاعتماد على البترول ثم تختفي من دون نتيجة. الواقع أوسع من البترول وأشمل، وإذا نظرنا إلى الواقع بهذه الشمولية نجده يحوي المتناقضات التي تستدعي منظور التحول بدلالة أشمل من الارتهان إلى بدائل عن البترول، أو الانحصار في دلالة اقتصادية. أن يتحول المجتمع اقتصادياً يعني أن يتحول اجتماعياً وثقافياً؛ بحيث يكون التحول شمولياً أو لا يكون. وهنا درجة عالية من المشروطية والترابط بين الاقتصاد والسياسة، ليس لصناعة حدث التحول فحسب، ولكن لضبطه وحوكمته...

وأظن أن التحول في ضوء المعطيات السابقة، ليس عملاً محدوداً، ولا حدثاً في الفراغ لا تعوقه صعوبات. إنه تحدٍّ حقيقي لأكثر من سبب. وأول الأسباب متعلق بخصائص ثقافية اجتماعية ذات رسوخ، سواء من جهة موروثاتها أم من جهة ما تطبَّعت به في ظل الاقتصاد الريعي من احتقار العمل اليدوي وتضاؤل حس المسؤولية الفردية وتضخم الشعور القبلي والطائفي والمناطقي والذكوري... إلخ. وإذا كانت العلاقة مع الديني شديدة الحضور في المجتمعات العربية وفي المملكة على نحو أخص، فإن تحويل هذه العلاقة إلى دعامة للتحول والتقدم يأتي باستثمار تفسير فقهي معتدل مغاير للتفسيرات الدينية الحزبية المتشددة التي ترفض الآخر وتعمل على توتير العلاقة مع العالم وتدعو إلى الانغلاق وإلى منع المرأة من العمل وإلى مواقف شديدة التحفظ تجاه السياحة والآثار والمتاحف والمسرح والسينما. ولا يقل عن ذلك تحدياً، مغالبة حاجز الزمن؛ فما تحقَّق لبلدان عديدة من تحولات وتطورات في عقود، نريد له التحقق في عقد ونصف العقد.

وعلى أي حال فإن التحدي هو - دوماً - المقاس الذي تتعاظم به أهمية الأفكار الضخمة والمهمات الصعبة، خصوصاً إذا كان البديل عنها، كما هو الحال مع فكر التحول والتطوير، هو فكر التراجع والإفلاس والجمود.