وأرجو من القلب قراءة فكرة مقال اليوم بعقل واسع مفتوح لا يحتمل قراءة النوايا ولا تبعات التأويل والتفسير. كنت مساء البارحة في مجلس عائلي خاص، وعندها دار الحديث الصاخب الطويل عن أنساق الغرب الاجتماعي وعن القيم الاجتماعية الإنسانية المشتركة. كنت أقول إن لدينا فهما خاطئا ولبسا عميقا حول قيم الأسرة الغربية وعلاقات الأبناء بالآباء في المجتمعات الغربية. هنا تدخل في الحديث أحد الأقارب ليقول لي بالحرف الصارخ: (هذه محاولات لتمجيد أخلاقيات هذا الغرب "الكافر" المفكك الموبوء بالأمراض الاجتماعية، وهذا لا يصح أن يقال في مجلس مسلم).
هنا أدركت فورا أن المشكلة الأساسية لدينا عند تحليل الخطاب ليس إلا إدخال وحشر الخطاب الديني مع أي نقاش أو حديث عن "الآخر" المختلف. قلت لصاحبي: نحن لا نتحدث عن مقارنات الأديان ولا عن مقارباتها بقدر ما نتحدث عن تركيبة العائلة وأنماط الحياة الاجتماعية في المقاربة ما بين مجتمعين، وهذا حديث لا علاقة له بديانة أو مذهب. نقاش لا علاقة له أبدا بالدين بقدر ما هو حديث عن الفطرة البشرية في العلاقة ما بين أطراف العائلة، وهي فطرة إلهية غرسها الخالق -عز وجل- حتى في الحشرات والبهائم. ومرة أخرى، نحن ضحايا هذا الخطاب الذي يصور لنا الغرب الاجتماعي على أنه مجرد "حديقة حيوان" رغم أن به من صور التكافل والتراحم وروابط الأسرة ما يصل لحد الخيال، ولن يعرفه سوى من عاشه وتعايش معه.
قلت لصاحبي: أنا لا أتكلم عن الأديان ومقارباتها ومقارناتها على الإطلاق: أنا أتحدث عن الغرب الأخلاقي. هو ذات المجتمع الخلاق المبدع الذي أخرج من معامله ومراكز أبحاثه لقاحات الجدري والتيوفئيد والسل والتهاب الكبد الوبائي مثلما كافح الإيدز والإيبولا وشحنها بالأطنان إلى كل ركن وزاوية مريضة على خريطة هذا الكون. ودعني أكون أكثر وضوحا وصراحة: لولا أبحاث هذا الغرب الخلاق ومعامله لكنا حتى اللحظة ضحايا السعال الديكي الذي قتل أخي الصغير "محمد" يوم كنت في الأولى الابتدائية، فلا زلت أتذكر لحية أبي الطاهرة -يرحمه الله- وهو يبكيه جثة هامدة ودموعه تنهال على وجنتيه. لولا هذا الغرب الأخلاقي الخلاق لما كان باستطاعة "زعماء" مجلسنا البارحة في هذا النقاش الصاخب الأحمر سوى الحضور، وهنا سأكتبها بالبلدي الشعبي (.... إلا على ظهور الحمير المربوطة أمام بيت كبير عائلتنا...."، بدلا من حضورنا الفخم الفاره على أغلى ماركات السيارات ونحن أسرة صغيرة لكنها تحتل اليوم بطبيبها السابع عشر، مثلها مثل آلاف الأسر. والخلاصة الأخيرة: الحديث عن الأخلاق والقيم في المقاربة والمقارنة بين المجتمعات ليس حديثا عن الدين على الإطلاق. هي قيم كونية مشتركة.. انتهت المساحة.