المأمول في هذه الحياة دوما متقدم على الواقع، بينما النعيم الواقع في الجنة سابق المأمول، ونحن لسنا في الجنة إنما في هذه الحياة الدنيا، فمن الواقعية إذًا ألا ننتظر التقاء الواقع بالمأمول، فهذا محال.

أحلامنا وطموحاتنا دوما أعلى وأسمى من الواقع، مهما كان هذا الواقع جميلا ومتكاملا، فكيف إذا كان الواقع يحوي العديد من العيوب!

الحياة إما أن تكون مغامرة جريئة أو لا تكون، إن أردنا أن نكون غدا كما نحن عليه اليوم، فهذا يتطلب الرضا التام بالواقع، وهذا في حد ذاته سبب كافٍ كي لا يكون لنا في الغد أي وجود، أو أن يكون لنا وجود لا قيمة له، والكينونة هنا كينونة قيمة في حقيقتها لا كينونة وجود، لأن مجرد الوجود في الغد لا يستلزم أي قيمة بالضرورة.

وفي التجربة "الماليزية" التي نتغنى بها دائما، مثال على الجرأة والإقدام والرغبة في الوصول للمأمول، وعدم الاستسلام للواقع، لكيفية بناء قيمة تضمن الوجود الفاعل المحتذى به. هي فكرة، وكأنها كانت تؤرق "مهاتير محمد" رئيس وزراء ماليزيا السابق، فكرة أن تكون ماليزيا أو لا تكون، لا وجود لخيار ثالث هنا، إما أن تتقدم ماليزيا أو تبقى في طوافها حول "الموز وأشجار المطاط"، والعالم لا يقيم ذلك الوزن لأمة تعتمد على الموز كمنتج رئيسي ولا حتى المطاط.

وفي الحقيقة، العالم لا يقيم ذلك الوزن لأي أمة تنتظر ما تجود به الأرض كمصدر دخل وحيد، والموز في هذه الحالة كالنفط كلاهما يعتمدان على مدى حاجة الآخر لهذه السلعة، ومتى ما انتفت الحاجة لها تغير كل شيء.

عموما، مشروع التحول الوطني الذي طرحة الأمير "محمد بن سلمان" ليس ببدعة، إنما هو نهج متبع عند كل أمة حية تطمح في أن يكون لها قيمة في هذا العالم، وهو أيضا الامتداد الطبيعي للخطوات المهمة التي تم قطعها في طريق الإصلاح والبناء، خلال فترة حكم الملك "عبدالله بن عبدالعزيز" رحمه الله. إنها الامتداد الطبيعي لبرنامج الابتعاث حيث الانفتاح على مختلف الثقافات، هو أيضا امتداد لهذا التقدم التقني والمعرفي الذي يعد بمثابة لغة يتحدث بها أبناء هذا الجيل.

إن المشروع برمّته ليس معزوفة الرجل الواحد إنما "أوركسترا"، حيث لكل فرد دوره المهم جدا أو سيتعكر اللحن بالكثير من النشاز، وككل "أوركسترا" تحتاج إلى أرضية، وأرضية المشروع مجموعة من القوانين الصارمة التي لا تحابي أحدا ولا تستثني كائنا من كان.

السؤال الآن: ماذا عن الجميع؟! ماذا عن القطاعين الخاص والحكومي، وعنا نحن كمواطنين، وعن الموظفين في شتى المجالات، وعن الإعلاميين ورجال الدين والمثقفين، ماذا عن الوزراء والأمراء، في هذه الأوركسترا؟

لكل فرد دوره المحدد، ولا مكان للتطبيل، والتصفيق ليس مطلوبا من العازفين، إن أردنا أن نكون فهذا يتطلب بذل الجهد والبدء في العمل، فقد تعامل المشروع مع هذا الوطن بحيث توزن الأمور بالربح والخسارة والفوائد والمخاطر، والمعيار الوحيد في أي شراكة هو العمل، العمل الذي تقوم به هو ما يحدد مكانتك، قيمتك في هذه الشراكة ليست إلا جزءا من القيمة الأسمى التي يطمح المشروع الوصول إليها "قيمة وطن"، فلا مجال إذًا للأنانية والبحث عن مكتسبات شخصية، وانتظار الهبات والمساعدات الحكومية، على الجميع أن يعي حجم المسؤولية فالحديث اليوم عن المستقبل، عن العام 2030 الذي إن وصلنا إليه وتحقق فيه كل ما في الرؤية فسيبقى المأمول أسمى.

ولكي نستوعب حجم التحدي، فإن لمشروع التحول الوطني جماليته وجانبه المضيء ولا شك، إلا أن له أيضا جانبا آخر يتمثل في نسبة المخاطرة المرتفعة، لكن وكما قال أحدهم "إننا ندفع دوما الثمن الأغلى جراء الخوف من الفشل"، فالرضا بالواقع والتسليم له خوفا من خوض مغامرة جريئة يعد من أكبر العوائق في وجه التطور والتقدم.

أما الجانب الآخر لمشروع التحول الوطني، فيتمثل في التحديات العظيمة، فنحن إلى اليوم مجتمع استهلاكي لا يصدر إلا النفط، وحين نبدأ في التصنيع مع التخفيض من الاعتماد على النفط، فهذا النهج سيخلق حولنا بعض الأعداء وكثير من المنافسين، سيغضب من يعتمد اليوم على استهلاكنا المهول ليتربح، وسيغضب من يعتمد على هذا النفط كي ينتج، وأيضا لن يكون مرحبا بنا ونحن نطمح في مزاحمة المتربعين على عرش الاقتصاد العالمي، فإما أن يكون الجميع أهلا لهذا التحدي أو سنتواجد غدا لمجرد إثبات الحضور.