وقع في يدي كتاب للشيخ الكبير الشيخ محمد بن عبد الرحمن السخاوي الشافعي الملقب بشمس الدين، وهو تلميذ الإمام ابن حجر العسقلاني رحمهما الله، وحسبك بهذا فخرًا، انتقل من مصر إلى المدينة المنوّرة ثم توفّي فيها عام 903 هـ.

وفي مجاورته لطيبة الطيّبة حرسها الله، وعلى ساكنها الصلاة والسلام، كتب كتابًا مهمًا في تاريخها في مدة 9 قرون، منذ هاجر إليها النبي صلى الله عليه وسلم حتى عصر السخاوي، ونقل صورة حيّة لمجتمعها في القرن التاسع الهجري، وسمّى كتابه "التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة". هذا الكتاب حققه الشيخ (السلفي) محمد حامد الفقي مؤسس جماعة أنصار السنة المحمدية، وهي جماعة سلفية معروفة تنتمي إلى التيار العلمي الإصلاحي وتُنسَب أحيانًا إلى التشدد. غير أن اللافت حقًا في هذا الكتاب أن الذي قدّم للتحقيق هو الدكتور طه حسين (الليبرالي)، وفي مقدّمة هذا الكتاب أنصف طه حسين (الليبرالي) عهد المماليك، حيث انتشرت المدارس، وغلب على علمائه تأليف الموسوعات الكبرى في كل العلوم، فحفظوا التراث للأجيال المتعاقبة كما يقول طه حسين، ثم يضيف: "ولو جرت أمور الحياة العربية على ما كانت تجري عليه في تلك الأقطار أيام المماليك؛ لأظلها العصر الحديث وهي عزيزة كريمة، عالمة معلمة، مشاركة للغرب الأوروبي فيما فيه تنمية الحضارة وترقيتها".

أما الإمام شمس الدين السخاوي فقد جعل كتابه هذا ترجمة لأهل طيبة الطيّبة منذ عهد الهجرة حتى ذلك الزمان، من العلماء والكبراء والصالحين ومن لهم شأن، بل ترجم حتى لمن أقام بها ولو سنة، بشرط أن يكون درّس فيها أو حدّث، أو أفتى على طريقة أهل السنّة، ولئن كان العلماء ترجموا لبعض المدن كابن عساكر في دمشق، والخطيب البغدادي في بغداد؛ فإن حق المدينة المنوّرة أولى، وهي بذلك أحرى وأخلق.

ولم يفت السخاوي -رحمه الله- وصف المسجد النبوي، والروضة المنيفة، والحجرة الشريفة، والكسوة، والسواري، والمنائر، والأبواب والمنابر، والأروقة، وما جرت عليه العادة في الخدمة والتطييب والتنظيم، كما لم يفته ذكر الأئمة والخطباء والمدرسين والمؤذنين، ولا ما يزار من الآثار كالآبار والمساجد؛ فضلاً عن الرُبُط والمدارس وأماكن المرضى، وكذا النظّار والمحتسبين والرؤساء، بل الفراشين والخدَم.

لاحظتُ وأنا أتصفّح هذا الكتابَ القيّم أن المدينة المنوّرة بوتقة صهرت جميع الأعراق والإثنيات والألوان والأشكال والمذاهب فكانت نسيجًا تعدديًا جميلاً يصوغ كل تلك الاختلافات في قالب واحد؛ فكانت طيبة الطيبة نموذجًا أوحد قديمًا متفردًا في التعددية المذهبية والعرقية، قبل أن تصل أوروبا إلى هذا، وقبل أن تخطر أميركا من البشر على بال، فقد ترجم السخاوي لكثير من أهل المدينة ما بين مشرقي ومغربي، وهندي ورومي، وكردي وصقلبي، وشامي ومصري ويمنيّ، وأصفر وأحمر وأسود، وحنفي ومالكي وشافعي وحنبلي، وسني وشيعيّ. نعم كانت تدور مناوشات طفيفة بين السنة والشيعة، مما لا يخلو منه مجتمع فيه مثل هذا، غير أن الجو العام كان منسجما وتعدديا، بلا تمييز ولا عنصرية ولا طائفية بغيضة.

فمن الحنابلة في المدينة المنورة الشيخ سراج الدين عبد اللطيف بن أبي الفتح الحسني (الفاسي) المكيّ أحد شيوخ السخاوي وقد تولى القضاء. ومن الحنابلة كذلك أحمد بن علي بن أحمد بن محمد بن عمر الشيشيني (المصري). ومن المالكية فيها الشيخ البدر أبو محمد عبد الله بن محمد بن أبي القاسم بن فرحون، وواضح من اسمه أنه من بلاد المغرب، ومن المالكية -وهو من تلاميذ السخاوي- رجل يقال له: إبراهيم بن عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم (الصنعاني) الأصل المدني المالكي المادح، ولعله إنما لقّب بالمادح لأنه كان يكثر مدح النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا إبراهيم بن محمد (المكناسي)، كان شيخًا مقرئًا حسن الصوت بالقرآن، جيد الأداء في التلاوة.

أما الأحناف؛ فمنهم القاضي عبد الرحمن بن علي الأنصاري الزرندي، ومنهم إبراهيم بن جلال الخجندي، وأحمد بن جلال الشهاب الخطلاني العجمي، وأحمد بن عبد الغني الكناني المصري. أما الشافعية؛ فمنهم السيد أبو عبد الله علي بن عبد الله الحسني السمهودي صاحب كتاب وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى وصفه السخاوي بأنه "صاحبنا وحبيبنا"، ومنهم الشيخ عمر بن أحمد الدمنهوري وكان خطيب المسجد النبوي، ومنهم إبراهيم بن أحمد بن محمد المصري الشافعي وكان رئيس المؤذنين، ولأجل هذا يعرف ابنُه بابن الريّس.

وواضح في الأعلام الذين ذكرهم السخاوي أنهم جمعوا إلى تعددية المذاهب تعددية الأعراق ما بين مغربي ومصري ويمني، كلهم في النهاية عرفوا بأنهم (مدنيّون) منهم القاضي، ومنهم الفقيه، ومنهم المؤذن في المسجد النبوي، ومنهم الخطيب، ومنهم الإمام. وإليك أخي القارئ من الأعلام من ترجم لهم السخاوي من بقاع وأصقاع شتّى، فمن أولئك: الحسن المسوفي التكروري، والتكروري هو (التكروني) بلهجتنا الدارجة، ومنهم عثمان التكروري كذلك وكان شيخًا صالحًا مشتغلاً بالعلم، ومنهم اثنان كلاهما يسمّى إبراهيم الجبرتي، عرفا بالصلاح والتقوى، وكذا داود الجبرتي كان من أهل القرآن، ومنهم تقي بن محمد بن تقي الفخري السنجاري، من جبل سنجار، من بلاد الأكراد، وإبراهيم بن حمزة بن نبكي بن محمد بن علي أبو محمد الخدابادي، ومن أهل الهند ممن سكن المدينة ناس كثر، منهم أحد خدّام المسجد النبوي واسمه ريحان الهندي، قال عنه السخاوي: "ممن طالت إقامتهم في الخدمة الشريفة، وله مآثر حسنة؛ كرباطين حسنين عم النفع بهما، ونخل جيد، وسقاية للماء، ودارين، وكان كثير المعروف محبا للخير وأهله مؤثرا الباقي على الفاني".

دع عنك من ذكرهم ما بين رومي وصقلبي وحبشي، لولا ضيق المقام لسردنا أسماءهم ومآثرهم.

هذه صورة مصغرة فقط عن المجتمع الحجازي -والمدني خاصة- عرف فيه هذا المجتمع التعددية في وقت مبكر، من كتاب ألفه الإمام الشهير السخاوي المصري ثم لكونه أصبح من أهل المدينة، وقد توفي فيها فهو مدني.