هذه العبارة قالها الإمام علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في معرض ردّه على الخوارج، ليبين لهم ويعلّمهم مسألة حرية الآراء، وأنه لا يجوز القتل على الرأي، فقالوا له: "نحن لا نؤمن بما تقول ولا نصلي خلفك"، فردّ عليهم بقوله رضي الله عنه: "لكم كل ذلك، ولكم أكثر من ذلك... بيني وبينكم قتل الناس وظلمهم"، أي أن لكم حق الاعتراض وحق إبداء الرأي ولكن بشرط عدم ظلم الآخرين وقتلهم باسم الإسلام.

هذا هو مبدأ الصحابة والخلفاء في مسألة "التكفير"، وهذا هو النهج الذي سار عليه كثير من علماء المسلمين في مجمل آرائهم ونظرياتهم، وليس هذا فحسب، بل وفي تعامل المسلمين مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى.

فالإسلام يضمن حرية الرأي وحرية المعتقد والدين ما لم يقترن مع هذه الحرية ظلم أو جور واعتداء على الآخرين، ونجد ذلك في كثير من آيات القرآن الكريم وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

إن الإسلام أقرّ مبدأ حرية الاعتقاد، وحساب الناس على معتقداتهم يكون في الآخرة، والله سبحانه هو حسيبهم يوم القيامة، وهنا أورد رأياً لأحد علماء المسلمين وهو (الجاحظ) والذي يقول فيه إن الله لا يعاقب من الكفار إلا أولئك المعاندين الذين يدركون الحق ولا يؤمنون به حرصاً على جاه أو رئاسة دينية أو نحو ذلك من الأسباب، وذلك لأن "الكافر الأمي أو الجاهل الذي يعيش في قرية منعزلة لا يعرف من العقائد غير العقيدة التي نشأ عليها، وهو إذًا لا يستطيع أن يفكر إلا في نطاق تلك العقيدة".

وهذه النظرية التي جاء بها الجاحظ، نجد لها آثاراً في كثير من آراء فقهاء المسلمين والتي تكاد تشكّل قاعدة فقهية تتمثل في أن "الجاهل لا يكفّر" حتى وإن قام بأعمال تتنافى مع الشريعة، أو أنكر ضرورة من ضروريات الدين.

ومما سبق، نلاحظ أن مفهوم الكفر ومسألة (التكفير) ليست بالأمر السهل، فإذا كان إطلاقه على غير المسلمين فيه نظر كما رأينا في نظرية الجاحظ آنفاً والذي أيده فيها كبار فقهاء المسلمين آنذاك مثل (أبوحامد الغزالي)، فما بالك بمن يطلق هذا الأمر على أبناء المسلمين أنفسهم!

إن ظاهرة التكفير ليست قاصرة على مجتمع أو دين أو عصر معين، فكم من عالم أو مفكر قتل بتهمة الهرطقة أو الزندقة بسبب نظرياته العلمية وأفكاره على مر العصور، وكم من حروب قامت بسبب ذلك، منها على سبيل المثال محاكم التفتيش والمحاكم الكنسية والحروب الصليبية.

وللأسف الشديد فإن داء التكفير انتقل إلى المسلمين أيضاً منذ صدر الإسلام، فقد قتل الصحابي عثمان بن عفان ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، بسبب هذا الفكر المتشدد والمتطرف، وقتل وحورب كثير من علماء المسلمين.

واليوم نجد بعضاً من أبناء المسلمين قد ابتلي بهذا الداء، وأصبح البعض أسيراً لأفكار بعض الجماعات الإرهابية، والتي تستغل الدين أبشع استغلال في القيام بعمليات القتل والإفساد في الأرض، وذلك من خلال التفسير والتأويل الخاطئ لآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، والتي تخدم أهواءهم وأهدافهم المنحرفة، وأمر التكفير لم يعد قاصراً فقط على هذه الجماعات، بل امتد أيضاً إلى بعض فقهاء المسلمين، وفي بعض فتاواهم غير مدركين خطورة ما يفتون به في مثل هذه المسائل والتي تطال عقائد الآخرين.

ولتوضيح خطورة التكفير وآثارها السلبية على الناس، لنأخذ على سبيل المثال مسألة (ترك الصلاة)، وذلك لأن هذه المسألة قد تكون أكثر وضوحاً من غيرها، ورغم ذلك يشوبها التعقيد، والتي يصعب من خلالها تكفير تارك الصلاة حتى وإن ثبت ذلك.

فمن المعلوم أن المسلمين اختلفوا اختلافاً شديداً حول كفر تارك الصلاة، فمنهم من قال إذا تركها كسلاً لا عمداً وأقر بوجوبها فلا يكفر، لأنه يقر بضروريات الدين، وهناك من قال إنه يكفر سواء تركها عمداً أو كسلاً، وهناك من قال إن تارك الصلاة لا تناله عقوبة دنيوية ولا يطبق عليه حدة الردة ما لم يجاهر بذلك، وهناك من فصّل في عملية عذاب تارك الصلاة في الآخرة.

ورغم هذا الاختلاف لنفترض جدلاً أن شخصاً أنكر الصلاة وجاهر بذلك، يا ترى هل نستطيع أن نحكم على هذا الشخص بالكفر؟ وبالتالي جواز قتله؟ وهل يحق للأفراد العاديين القيام بذلك؟ ألا يفضي ذلك إلى الفوضى وإثارة الاضطراب والخلل في مفاصل المجتمع الإسلامي؟ ماذا لو كان منكر الصلاة يعاني من مرض نفسي..أليس في قتله ظلم له؟ وماذا عن القضاء والقانون في الدولة؟ وماذا في النهاية عن حرية الاعتقاد وأن تاركها وقع في شبهة جهلاً منه؟ أليس هذا الأمر يدخلنا في تفاصيل أكثر تعقيداً؟

كل هذه الأسئلة تثار حول مسألة قد تكون واضحة للجميع، فما بالنا في المسائل والقضايا الأكثر تعقيداً وأكثر غموضاً، وخاصةً القضايا الفكرية والعلمية التي يكثر فيها الجدال وتحتمل أكثر من رأي ونظرية.

ورد في الحديث النبوي الشريف: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، ويفهم من هذا الحديث أن الإنسان الذي سلم الناس من لسانه ويده وعاش الحب لله ثم الإنسانية، وسعى في مساعدة الفقراء والمساكين ونصرة المظلومين فهو مسلم في الحقيقة، وغير المسلم في واقعه الذي يتعرض للناس بالأذى والعدوان بيده ولسانه وإن جرت عليه أحكام الإسلام المذكورة في كتب الفقهاء، فالإسلام في حقيقته هو الدين الذي يحيي في واقع الإنسان دوافع الخير والإنسانية وحب الناس والدفاع عن المظلومين مع التوجه إلى الله عزّ وجل بالعبادة والمناجاة.